أسحاق الشيخ «أبو سامر» في ذمة السماء..
رغم أن كل المؤشرات كانت تدل على أن الرجل كان يعيش آخر أيامه، وان الورم استفحل في كامل جسمه، ولم يعد قادراً على إيقاف انتشاره لبقيةالأعضاء، إلا أني كنت آمل أن يمد الله في عمره بعض الوقت، وان يُسمح بالسفر، فأذهب للبحرين لوداعه الوداع الأخير. لكن توقيت ساعة الرحيل لاتأتي وفق رغباتنا ولا تحل كما نتمنى، وحدث ما كنت أخشاه، فقبل ساعات جاءني الخبر الأليم بأن أسحاق الشيخ يعقوب «أبو سامر» قد توفاه الله، وانتقلت روحه لباريها.
عرفت المرحوم أسحاق قبل خمسين عاماً، كان في الأربعين من عمره، ولكني حينما قابلته بدأ لي وكأنه اكبر من ذلك، ربما بياض شعره وقامته ألمربوعه وعرض منكبيه وأحاديثه عن أسماء كبيرة كان بصحبتها من قبل غادرت الدنيا على أيدي قوى باغية، هي التي خلقت ذاك الانطباع. وبعكس تلك الصورة كان الرجل يمتلئ حيوية شبابية تفرض نفسها على من حوله مهما قاوموها، كان واضحاً أن حيويته تلك تجعله جندياً في مقتبل العمرينتظر الكثير من المعارك وغير خائف منها. وخلال السنين التالية رأيته لا يتوقف عن ”مطارحاته الفكرية“ وخوض المعركة تلو المعركة عبر صفحات الجرائد والمجلات.
كان شاباً طري العود حينما اجتازت خطاه حدود وطنه في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، باحثاً عن مداد يتجدد ولا يجف من محبرته، وعن هواء غيرآسن يملأ رئتيه فيدفع به إلى شرايينه النابضة بحب الوطن، حب من طينة مختلفة، حب منبثق من حب الناس الحفاة الذين لا يملكون إلا سواعدهم السمراء صانعة الثروات والخيرات، وهي التي تخرج من باطن ارض الوطن ذهبا أسوداً يملأ براميل شركات العم سام، فيحيلها ”أوراقاًخضراء“ تتراكم في خزائن بنوك وول ستريت واقبيه بنوك السيتي في لندن. ذاك الحب القادم من قناعاته بأن أصحاب تلك السواعد والأيدي الخشنة سيرسمون اجمل الصور ويعزفون أحلى المقطوعات الموسيقية للوطن حينما يتخلصون من أغلال الجهل والخرافة.
عاش سنين طوال من عمره غريباً عن دياره التي رضع فيها أولويات فكر، لا يقبل بقاء من يحمله مكتوف اليدين، متفرجاً على ليل لا يبزغ فيها الفجر، وعن ارض لا تضيئها شمس الأمل.
امتشق هذا الفكر، وظل يحارب به ليالي الغربة، وطواحين الهواء المرئية والمخفية، وزواراً لا يطرقون الباب بأيديهم...
كان التقاط الأخبار البعيدة القادمة من خلف خطوط التابليان ورؤية الأحباب في غرف دون نوافذ، وقوداً يجدد فيه تلك الروح المشاكسة التي كانت تبقيه يقظاً كالذئب.
تتغير القناعات وتتبدل الأولويات لدى الأصدقاء والأعداء، فالزمن لا يبقى ثابتاً وما كان هو الصواب بالأمس ربما لم يعد لدى آخرين كذلك، أما ماتعلمه أسحاق في مدارس الحياة بالجبيل والظهران وهو الفتى الغض فقد بقي قابضاً عليه، وهو الشيخ التسعيني دو الشعر الأشيب كما كان حينما قابلته قبل عقود.
في كل ارض وطئتها قدميه كانت له معارك مع خصوم كان من الممكن أن لا يكونوا في الجبهة المقابلة. وكانت له مواقف وحلول لم يحسب مقاساتها ”بالقلم والمسطرة“، فجعلت من حلوله أجوبة لمسائل أخرى، لم يكن مطلوب حلها حتى بعد حين.
غادرنا أبو سامر تاركاً وراءه سيرة ثرية بالأحداث والمواقف والمواجهات والصداقات والخصومات، وعبر هذه السيرة تتسجل صفحة أخرى من صفحات تاريخ الوطن. فتاريخ الأوطان ليس صفحة واحدة يكتبها مؤلف واحد.
رحل عنا أبو سامر وفي القلب حسرة على رحيله دون وداع من كافة أصدقاءه ومحبيه، فلروحه السلام والطمأنينة، وله الذكر الطيب، والعزاءوالصبر والسلوان لرفيقة دربه السيدة نعيمة المرهون ولأولاده وبناته وكافة أسرته، ونسأل الله له الرحمة والمغفرة من رب العالمين.