الذكاء الصناعي... هل من حدود؟
في السابع والعشرين من نوفمبر الماضي جرى اغتيال العالم الفيزيائي النووي الايراني محسن فخري زاده، والملقب بأبي البرنامج النووي. وقد أعلنت طهران أن الاغتيال تم بمساعدة الذكاء الصناعي عن طريق التحكم عن بعد بواسطة الانترنت والأقمار الصناعية «رغم أن هناك من خارج إيران من يعتقد بعدم صحة هذه الرواية».
انا لست بخبير عسكري، ولا اعرف عن الأسلحة وكيفية استخدامها، ما يجعلني اكتب في مثل هذا الموضوع، فهو ليس من اختصاصي، وليس لدي من الأسباب ما يجعلني ابحث في تفاصيلها، فهناك المتخصصين في هذا الحقل الذين يمكنهم كتابة المجلدات عن ذلك.
كما أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها اغتيال علماء إيرانيين في الفيزياء النووية في داخل الأراضى الإيرانية، ولكن ما يلفت الانتباه في هذا الاغتيال تفاصيله من ناحية علمية استناداً على الرواية الإيرانية الرسمية.
وحسب ما هو معروف فأن التحكم في الأسلحة عن بعد قد جرى استخدامه من قبل، وحتى بدون الأقمار الصناعية، ولكن عملية الاغتيال هذه تعد أول مرة يتم فيها استخدام الذكاء الصناعي في عملية اغتيال عن بعد لشخص بعينه وتمييزه عن مرافقيه «زوجته» وفي وقت محسوب بدقة متناهية.
وهنا ينطرح السؤال: هل دخلنا فعلاً في مرحلة عسكرة الفضاء، وان الأقمار الصناعية المحيطة بالأرض ليست فقط للاتصالات أو البث التلفزيوني ولا لمراقبة المناخ، كما أن العسكرية منها لم تعد قاصرة فقط على التجسس والتقاط الصور للمواقع العسكرية والمنشآت الصناعسكرية، وبثها للمحللين والمراقبين في ساعتها.؟ وأنما بعد هذه الحادثة يمكننا القول أن لها استخدامات ووظائف أخرى لم نسمع عنها من قبل ولم نراها الا في الافلام السينمائية.
لقد سمعنا عن الانترنت القادم عبر الأقمار الصناعية وأننا سنستطيع استخدام الانترنت في بيوتنا ومواقع عملنا وأثناء تحركنا وأينما نكون دون حواجز أو قيود محلية وبرسوم قد تكون اقل مما ندفعه الآن. ومن جانب آخر، هناك أيضأ الجيل الخامس من شبكات الهاتف الجوال «المتنقل»، الذي لن يسرع فقط انتقال المعلومة، بل وسيشمل أيضأ نوعية وحجم المعلومة المنقولة في أجهزتنا الصغيرة. إذن نحن نعيش عصر عولمة سيبرانية تذيب الحدود وتجعل العالم قرية كما وصفه المفكر والثائر الأمريكي توماس بين «1737 - 1809» حينما برر دفاعه عن الثورة الفرنسية وهو الأمريكي الجنسية، قبل قرنين من الزمان بقوله أن ”العالم قريتي“. فالحدود الجغرافية التقليدية بين الدول لن نشعر بوجودها إلا حين تقديم جوزات سفرنا لضابط الجوازات.
ونسأل انفسنا سؤال آخر، ما هي الضوابط التي ستستطيع الحكومات استخدامها للتحكم في المعلومة التي يمكن لمواطنيها الحصول عليها؟. ومن ركن آخر، اذا سلمنا بأن من بين الأقمار الصناعية المحيطة بالارض ما سيشبه طاقية الإخفاء التي استخدمها المرحوم الممثل إسماعيل ياسين في فيلمه ”سر طاقية الإخفاء“ المنتج في سنة 1959 حيث كان بإمكانه حين لبس الطاقية الدخول إلى أي مكان دون عائق والتنصت ورؤية خصومه دون إحساسهم بوجوده، آنذاك ستكون هذه الأقمار الصناعية والهواتف وبمنجزات الذكاء الصناعي قادرة على اختراق الجدران وفتح الأبواب والنوافذ دون استئذان. ولنا أن نضيف على ذلك، أي خصوصية سنملك وكيف نحمي ذاواتنا حينما نزرع تحت جلدنا شريحة هاتفنا الذي سيتحول لأكثر من بطاقة أحوال أو رخصة سياقة، أو بطاقة صرف آلي؟!.
إن ما نعرفه نحن من غير المختصين في علم الذكاء الصناعي لأغراض مدنية هو ما يتم الإفصاح عنه فقط، أما ما زال طي الكتمان ومخفياً عن أعين الجمهور لأسباب تجارية، أو لا زال ينتظر قرار الجهات الرسمية فقد يكون أكثر قدرة في اقتحام خصوصياتنا كأفراد، وعلى القيام بأعمال التجسس التجاري وكشف أسرار الشركات المنافسة عبر الحدود ودون حاجة لجواسيس من البشر كما يحدث الآن.
ولكن الأمور اكثر تعقيداً وعمقاً حينما يجري الحديث عن استخدام الذكاء الصناعي لأغراض عسكرية، فحادثة اغتيال العالم الإيراني كما جاء رسمياً من طهران بينت أن استخدام منجزات العلم لأغراض عسكرية بهذه التفاصيل الدقيقة قد بلغ مستويات عالية المهنية، ومن الصعب مواجهتها بالأساليب التقليدية القديمة.
إننا لا نذيع سراً، ولا نكشف غوراً حينما نقول أن ما يصرف على المختبرات والمعامل لأغراض عسكرية يفوق كثيراً المبالغ والميزانيات المخصصة لأهداف سلمية أو مدنية. وبالتالي وبشكل تلقائي تكون مخرجات أو منتجات هذه المختبرات تتفوق على ما ينتج لأغراض سلمية وتسبقها في جاهزيتها للاستخدام، ولنا في ميزانيات الدول الكبيرة وحتى الصغيرة ما يخصص لأغراض الدفاع والأمن، براهين واضحة تثبت هذا القول.
إن كثير من المشاكل والتحديات التي تواجه البشرية اليوم - ومن المتوقع تفاقمها -، يمكن تقليل أضرارها وحصر تأثيراتها لو تم توجيه الجزء الأكبر من ميزانيات الدول «وخاصة الكبرى» لأبحاث علمية مدنية. ولكن لكون الأرباح المجنية من الأبحاث والتحديثات العسكرية اكبر بكثير مما يجنى من الأغراض السلمية، تعمل كارتيالات وشركات السلاح وسماسرته على أبقاء هذه المعادلة «في توجيه المصروفات الحكومية» دون تغيير من خلال التأثير في صناعة القرار السياسي وفي جعل التواترات بين الدول حالة مزمنة، ونزيف لا يتوقف.
إن الاستمرار في عسكرة منجزات ثورة الاتصالات والذكاء الصناعي دون توقف لا يشكل تهديداً فقط للسلم العالمي، بل ويفاقم من الأخطار المحيطة بنا كجنس بشري. فالسباق نحو امتلاك مختلف الأسلحة الفتاكة وعسكرة الفضاء بين دول العالم، وعدم وجود قوانين دولية تفرض نزع أسلحة الدمار الشامل يجعل من الكرة الأرضية ومحيطها الفضائي برميل بارود نووي قابل للانفجار في أي لحظة، ذلك انه من الصعب أمام أي دولة مهما كانت مسالمة إبعاد الشظايا التي يمكن أن تصيبها في حالة حدوث أي نزاع بين دول تقع ضمن إقليمها الجغرافي، فما بالك لو حدث تصادم بين دول كبرى لها نفوذها وتواجدها العسكري على الأرض وفي الفضاء. ومن هنا فأن من مصلحة البشرية جمعاء الوصول إلى اتفاق يحرم الاستمرارية في تطوير عسكرة الذكاء الصناعي، والبحث عن افضل السبل للقضاء على كافة أنواع الأسلحة الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل.
إننا نعرف أن مثل هذه الأماني أو المطالب قد تكون مثالية، ولكن المطالبة بها هي أقل ما يمكن لأي إنسان أن يفعله لحماية نفسه وحماية الأجيال القادمة. أما كيف نستطيع أن نواجه منجزات الذكاء الصناعي في الدفاع عن انفسنا وحمايتها، وحماية أوطاننا فذاك يتم من خلال اعتماد الحكومات على شعوبها وتسليمها مفاتيح القرار، وإزالة كل ما يضعف من اللحمة الوطنية والترابط بين مكونات الشعب الواحد، وإطلاق كل طاقاتهم وتسخير قدراتهم نحو تحقيق منجزات ملموسة في التقدم الاجتماعي والتنمية الإنسانية المستدامة فذاك هو السبيل لجعل الأوطان قلاعاً محصنة في وجه أي عدو مهما امتلك من أسلحة ذكية.