قصة قصيرة
أوراق ليست للبيع
في مساءٍ صيفي ممتزج بالرطوبة، كنا نجلس أنا وأمي وأخوتي في صالة البيت ننتظر أبي ليعود بخبز العشاء، وجهاز التكييف كان رفيقنا الممل في الانتظار، فقد بدا وكأنه لا يعمل، بعد أن تعاونت عليه درجة الحرارة والرطوبة وكسرتا جناحه.
في الثامنة مساءً دخل أبي يحمل أوراقاً وأكياساً وعلب مناديل، وهو يتصبب عرقاً، وعيناه تشعّان بالرضا والمحبة.
استقبلته أمي وأختي لتحملا عنه ما في يده، فأعطاهما الخبز والمناديل واحتفظ بالأوراق، ثم ناولته أمي كأس ماء وهي تقول: لدينا علب مناديل فلماذا اشتريتها من جديد؟
أشار لها بيده وكأنه يقول لها: سأخبرك لاحقاً.
عاد أبي بعد أن استبدل ملابسه وجلس بيننا على السفرة، وأخذ أختي الصغيرة سكينة ووضعها في حجره وقبلها، ثم أخذ يمشط شعرها بدلال أصابعه، وتغنى باسمها وهو يخفف «سكونه ساكنه» فأمسكت سكينة بالأوراق وسألته: ما هذا يا أبي؟ إنها رسومات قبيحة!
أخذ الأوراق من يدها وتنفس بعمق ثم قال: سكينة حبيبتي هذه الرسوم ليست قبيحة.. لكنك ترسمين أحسن منها.
ابتسمت سكينة مزهوةً بشهادة أبيها، ونظرت إليَّ وهي تقول: هل سمعتِ ما قاله أبي؟ وأنت لا تقبلين أن ألون بألوانك.
أكملتْ أمي التحقيق: من أين جئت بهذه الأوراق؟
قال: كنت خارجاً من المخبز ولفت انتباهي فتى نحيل، شعره طويل ومهمل قليلاً، يرتدي قميصاً بالياً عليه شعار نادي برشلونه وبيده قلم وأوراق يرسم فيها بينما هو يبيع علب المناديل، فاقتربت منه وسألته: هل هذه الرسومات الجميلة للبيع؟
أجابني: لا.. أنا أبيع فقط علب المناديل، وأشار بيده لبضاعته التي افترش لها الأرض.
قلت: لكنني أحب أن أشتري منك إحدى رسوماتك.
ابتسم في خجل وبانت أسنانه الصفراء وقال: شكراً.. ثم أضاف: هذه الأوراق ليست للبيع، لكن إن اشتريت علبة مناديل فسأهديك واحدة.
ابتسمتُ له وشكرته واشتريتُ ثلاث علب وأهداني ثلاث ورقات من رسوماته.
قلتُ له: أبي إنها ليست ذات قيمة لتشتريها، وكما أخبرتك أمي إننا لا نحتاج لعلب المناديل.
ردّ علي: حبيبتي لم أشترِ المناديل لأننا نحتاجها، ولم أساومه على رسوماته لأنها جميلة، لكن أحببت أن أمنحه لحظات سعادة تنسيه بؤسه وفقره. وكما قيل: ”دخول الجنة يمر عبر جبر الخواطر“.