كابوس يقتل الفرح
عشرون عامًا مضت على معرفتي بكِ، بل كنت أنتظرك قبل ذلك. فبمجرد أن قالت أمك: أنا حامل بأنثى.. قلت: اتركي لي اختيار اسمها.
كنت أتخير لك الأسماء.. أفصلها على مقاس سعادتي، وأدرب أذني على سماعها.
ذهبتُ لأول مرة إلى محلات اللعب، وملابس الأطفال، ووجدتُ طفولتي المفقودة بين هداياكِ، وكنت أترك جزءًا من تعبي واستبدله بلعبة، أو ثوب، أو حذاء.
مشى قطار أيام الحمل بطيئًا، لم أستطع إخفاء قلقي عند كل محطة يتوقف فيها لتتزود أمك بالدواء، أو لرفع ثقلٍ بدأ يتعب ظهرها.
وكان لقدومك نبوءة الساحرات، فحلّ الربيع في غير أوانه، وتلألأت النجوم في سماءٍ عمياء.
تناولتكِ أمي مسمية حامدة مصليةً على النبي وآله، ثم قبلتكِ أمك لتشحن قوتها بعد أيام التعب والسهر، وعادت لها نظارتها وابتسامتها، وأذن أبي أذنك اليمنى وأقام في اليسرى، وأقامت عماتك وخالاتك الأفراح والليالي الملاح، وأكل الفقراء من عقيقةٍ فارهة لحمًا طريًا.
كل أيامك مصورة في ذاكرتي..
يوم أمسكتْ أناملك الرقيقة سبابتي.
يوم قلت: بابا.
يوم بدأتْ رجلاكِ ترتفع عن الأرض لتمشي نحوي.
يوم تعانقنا فعانقت فيك أحلامي.
وعندما تهربين من بين ذراعي أمك مهرولةً نحوي ساعة عودتي من العمل.
أول أيام الدراسة.. وأنت تقفين عند باب المدرسة وتلتفتين لتودعيني قبل أن يخفيك عني الباب.. وساعة تخرجين متعبة من يومٍ صعب تجرين حقيبتك بملل.
عندما تقفين أمامي: بابا ذاكر معي..
بابا امتحن حفظي..
بابا اشتر لي دفترًا..
بابا ما رأيك فيما رسمت؟
بابا ما رأيك في فستاني؟
ويوم سألتني: بابا في أي جامعة تحب أن أسجل اسمي؟
قلت لك: في أي تخصص يخدم البشرية.
أمس كنتِ عائدة من الجامعة، وكنا في انتظارك لنتناول الغداء معًا،
لكنكِ لم تعودي للبيت الذي أحببتِهِ، وتشتاقين لدفئه، فقد كان الموت ينتظرك عند مفترق طرق.
أمس أودعتك قرب أمي، فهي أحن عليك منّا، وأنت تحتاجين لقلبٍ كقلب أمي ليداوي جراحك، فقد كان الحديد الذي ضرب وجهك وأدماه قاسيًا، كيف لوردة أن تتحمل قسوته؟
سلمتك أمي وعدت للبيت منهكًا، فالفقد يسرق كل طاقتنا، ولا يترك لنا إلا النفس المتهالك.. وغلبني النوم ولا أعلم كيف استطاع خداعي والقبض عليّ متلبسًا بحزني؟
وعندما تسلل أول ضوء هذا النهار إلى عيني ظننتُ أنني عشت كابوسًا، تنفستُ بعمق، وقمتُ مهرولاً لغرفتكِ لأعانقك، وأبثُ لكِ أشواقي، ولأكتشف أن ما جرى لم يكن كابوسًا.