التناقض المكشوف
شهدت عدد من المدن الفرنسية يوم السبت 28 نوفمبر مظاهرات صاخبة شارك فيها الآف المتظاهرين مدعومين من منظمات المجتمع المدني والنقابات وأحزاب سياسية متعددة التوجه، تعبيراً عن رفضهم لمشروع قانون الأمن الشامل، وتحديداً المادة 24 منه، التي تحضر تصوير رجال الأمن أثناء القيام بمهامهم، وتضع عقوبات مالية وسجن لمن يقوم بذلك.
وحجج المتظاهرين أن هذا القانون لو أقر فأنه ينتهك الحريات الأساسية ومبادئ السيادة الوطنية التي ثبتها الدستور الفرنسي كما جاء في ديباجتيه ”يعلن الشعب الفرنسي تمسكه بحقوق الإنسان وبمبادئ السيادة الوطنية مثلما حددها إعلان 1789“، والمادة الحادية عشر من هذا الإعلان التي تنص على أن ”حرية التعبير عن الأفكار والآراء هي واحدة من أغلى حقوق الإنسان بها يستطيع كل مواطن التحدث والكتابة والنشر بحرية ما لم يقع التعسف في استعمال هذه الحرية للحالات التي يحددها القانون“ ووفقا للمادة 34 من الدستور فأن القانون فقط هو من ”يحدد القواعد المتعلقة بالحقوق المدنية والضمانات الأساسية التي يتمنع بها المواطنون لممارسة الحريات العامة والحرية والتعددية واستقلالية وسائل الأعلام“. ويرى الداعون لهذه المظاهرات الاحتجاجية، أن مشروع هذه القانون الأمني يهدف للنيل من هذه الحريات ويؤكدون على أن لولا وجود هذه الحريات وتمتع المواطنون الفرنسيون بها لما أمكن الكشف عن أعمال العنف التي يرتكبها رجال الأمن، عبر توثيقها بكاميرات الصحفيين وعدسات أجهزة هواتف المواطنين. مثلما حدث في الأسبوع الماضي حينما تم تصوير ثلاثة من رجال الشرطة يعتدون على منتج موسيقي من أصول إفريقية بالضرب المبرح، فقط لعدم ارتدائه كماماً للوقاية من الكورونا. وقد حفز نشر هذا التسجيل على زيادة عدد المشاركين في تظاهرات السبت الماضي مقارنة بالأعداد التي شاركت في الأسبوع الذي قبله. وقد نجم عن هذه المظاهرات أحداث شغب «إضرام النار في مبنى فرعاً لأحد البنوك المحلية وكشكاً لصحف، واحد المقاهي في العاصمة، باريس»، كما أعلن عن أصابة 37 شرطيا نتيجة لمواجهاتهم مع المتظاهرين وخاصة الملثمين «من التيار الاناركي وغيرهم من العناصر العبثية» الذين عادة ما يقومون بمثل هذه الأعمال العنفية التي في أكثر الأحيان تلحق الضرر بالمتظاهرين المتمسكين بالطابع السلمي لحراكهم. ومن جهة أخرى استنكرت منظمة ”مراسلون بلا حدود“ تعرض المصور الصحفي السوري أمير الحلبي المتعاون مع وكالة ”أ ف ب“ الإخبارية إلى ضرب مبرح بالهراوة على وجهه من قبل رجال الشرطة مما أدى لدخوله المستشفى.
وما يعينا في الأمر ليس أحداث العنف التي حدثت بالأمس، التي كثيراً ما تترافق مع مظاهرات الاحتجاج ضد مشاريع قوانين أو مواقف سياسية حكومية. فهذه تحدث في فرنسا وفي معظم البلدان الديمقراطية. فعلى سبيل المثال شهدت وارسو عاصمة بولندا أعمال عنف من قبل البوليس البولندي الذي كان يحاول تفريق مظاهرة نسائية ضد قانون الإجهاض. وكذلك في ألمانيا حيث كان البوليس يحاول تفريق المعترضين على فرض لبس الكمامات كحماية من انتشار فيروس الكورونا. ودون النظر لاتفاقنا مع وجهة نظر المحتجين والمتظاهرين أو معارضتنا لهم، فأنهم كانوا يمارسون حقوقهم التي أجازتها وشرعتها لهم قوانين بلدانهم. فما حدث في فرنسا من أحداث شغب ممكن أن يتكرر في أي بلد، حتى لو كانت أغلبية المتظاهرين يرفضون العنف ويقفون ضد تحول المظاهرات السلمية إلى عنفية.
ما يهمنا في أحداث فرنسا، هو التناقض بين خطب وتصريحات الرئيس الفرنسي وغيره من رجال حكومته، بأن السماح بانتقاد الرموز الدينية، مهما تسببت من جرح لمشاعر اتباع هذه الأديان، فأنهم لن يحظروها أو يقفوا ضدها لأنها نابعة من النظام العلماني الفرنسي، الذي لا يمنع أحداً من التعبير عن رأيه وانتقاد أو السخرية من أي شخصية دينية مهما كانت.
من حق الفرنسيين اختيار النظام الذي يريدون العيش فيه، فلا أحد يمكنه أن يكون عليهم وصياً، أو يفرض عليهم ما يرونوه مناسباً لهم ولنظام معيشتهم، ولكنهم وبموجب القانون الأساسي «الدستور» للدولة الفرنسية الذي تدار البلاد وفقاً لمضامينه ومعانيه، فأنه لهم الحق في التظاهر والاعتراض على ما يرونه مساً أو انتهاكاً بحقوقهم المشروعة. ومشروع القانون الأمني الشامل وبالأخص المادة 24 تسلب منهم هذا الحق، فلولا أن القانون لا يمنع الصحفيين ولا غيرهم من تصوير وتوثيق ما يحدث في الشارع لكانت انتهاكات رجال الدرك غير معروفة ولن يطلع عليها الرأي العام، ولا حتى جميع من هم في قيادة البلاد، الذين هناك من بينهم من لا يقبل أو يبيح هذا النوع من التعاملات، فما يمكن أن ينفذ أو يمارس على من هو خارج الحكومة «المعارضة» اليوم، قد يمارس عليه غداً حينما تتبدل الأدوار ويتبدل الجالسون على مقاعد البرلمان، ويكون هو في صفوف المعارضة، حينها سيتعامل معه رجال الأمن بنفس الأسلوب.!.
يوضح لنا التاريخ أنه ومنذ أن أوجد الإنسان لنفسه كياناً اسمه ”الدولة“ ليحمي به مجتمعه القائم، وعلى مختلف العصور ودون النظر لشكل النظام السياسي، كانت الجيوش وقوى ألأمن والحراسة والقضاء الدراع الذي اعتمدت عليه السلطة السياسية ”الدولة“ لحماية نفسها وفرض هيمنتها.
وفي نفس الوقت لكي يمكن الاعتماد عليهم والوثوق بإخلاصهم في تنفيذ هذه المهمة يتم تربيتهم وتنشئتهم على أنهم القوة التي لا غنى عنها لحماية القانون وسلامة وأمن البلاد والنظام ومنع أي تطاول عليهم. ومن جهة أخرى ولطبيعة المهام المكلفين بها فأن جميع المنضمين لهذه الأجهزة يتم تدربيهم منذ اليوم الأول لالتحاقهم بهذا السلك على الانضباط الشديد والتقيد الصارم بالأنظمة ووجوب تنفيذهم للأوامر دون مناقشة أو أعتراض، وأن صرامة الفرد ووقوفه الصلب في وجه منتهكي القانون هو محط إعجاب وتقدير رؤسائه، وسبيله للترقي والتقدم الوظيفي، فيجعله ميالاً لتطبيق نفس الصرامة في وجه كل من يبدو له مخالفاِ أو منتهكاً للقانون «حسبما دٌرب عليه». وبحكم أن رجال الأمن هم أبناء بيئتهم ونتاج تربيتهم التي نشؤوا عليها، فمن الطبيعي أن يتمثل ذلك في تعاملهم اليومي مع الأفراد الذين يلتقون بهم في الشارع أوفي المراكز الأمنية، والذين هم بدورهم قادمون من بيئات وثقافات مختلفة وربما حتى مصابون بأمراض نفسية، مما يساعد على خلق بيئة تصادمية بين كلا الطرفين «ما لم يكون هناك ضوابط لها»، تدفع برجال الأمن إلى استخدام شتى أشكال العنف بما في ذلك العنف الجسدي، في سبيل الوصول إلى ما خفي أو غٌيب عمداً.
لقد كان رجال الدرك وعيرهم من رجال الأمن في فترات سابقة مطلقي الأيدي في مواجهتهم لمنتهكي النظام والقانون أو حتى المشتبه بهم، ولكن مع تزايد التعليم وارتفاع الوعي الحقوقي بين الشعوب وسرعة انتقال المعلومة والصورة، تهيأت الظروف لخلق واقع جديد يقلص من هذه الوضعية أو الممارسة القديمة عبر الكشف عن هذه الممارسات، وقد عزز ذلك، تغطيات وسائل الأعلام الحديثة وحاليا شبكات التواصل الاجتماعي، التي أتاحت تكون أشكالاً مختلفة من الرقابة المستقلة، ورفعت من مساهمات منظمات المجتمع المدني الحقوقية في المراقبة والمتابعة المستمرة لأفراد هذه الأجهزة، وهو ما جعل من انتهاكات رجال البوليس الفرنسي أو غيرهم لقوانين بلدانهم لا تمر بسهولة أودون متابعة قضائية أو مجتمعية.
لذا يأتي مشروع هذا القانون ليرجع بفرنسا عقوداً للوراء ويسلب من الشعب الفرنسي ما منحته له قوانين الجمهورية الفرنسية التي تعطي لأي مواطن الحق في قول ما يشاء والتعبير عن نفسه بأي طريقة يختار. فمنع تصوير رجال الدرك الفرنسي وهم يمارسون العنف والعنف المفرط في قساوته ضد المتظاهرين أو المحتجين السلميين أو الموقفيين في المراكز الأمنية المختلفة يسهل لرجال الأمن من تجاوز كافة أنظمة المراقبة وتجنب المحاسبة على الأعمال العنفية التي تمارس بحق المشتبه بهم سوى كانوا موقوفين في مراكز أمنية أو متظاهرين في الشوارع، أو حتى جالسين في منازلهم. مثل هذا القانون لو تم إقراره من قبل البرلمان الفرنسي فسيكون قمة التناقض بين ما يقوله الرئيس الفرنسي ويبرره من منطق الدفاع عن مبادئ الجمهورية الفرنسية، وبين دولة تترك لرجال دركها أن يفعلوا ما يشاؤون وكأنهم في دولة بوليسية ونظام مستبد، لا بالبلد الذي انطلقت وشعت منه مبادئ الحرية والمساواة والإخاء. فهل سيتم أقرار هذا القانون أم سيتمكن معارضوه من إجبار الحكومة الفرنسية على سحبه، وتحافظ فرنسا ولو شكلياً على روح دستورها؟ .