آخر تحديث: 3 / 12 / 2024م - 7:35 م

خمسون ضعفا...!

الدكتور محمد المسعود

نحن جميعا نعيش في زمن اليقين الكاذب، والحقائق المزورة، فالهواتف المحمولة تنتج وجوها لا تنتمي إلى أصحابها، وتتباعد عن واقعها، تستحضر جمالا ليس لهم ولا يقترب منهم.. ولكن هذا الجمال المستعار هو الذي يختاره ملايين النساء والرجال عند تقديم صورهم لغيرهم وفي الفضاء العام، حتى أصبح كل مرء منهم يخجل من «حقيقته» ومن صورته الحقيقية إن لم يسبقه إليها التحسين والتعديل والتزوير المتعمد لواقعها.

هذه الصورة المستعارة، صحبت معها المشاعر التي باتت أبعد عن الوضوح من غيرها، وفاضت على القلوب بالتيه وبالبعد، بالشتات، رغم أن الحب الصادق هو خير في كل نفس، إلا أنه بات قليلا ما تجود به القلوب، وشحيحة به النفوس.

في هذا الغبش الغالب على كل شيء، أصطفي من الناس من تجلى لهم ضعفك عند حاجتك فقضوها، ومن ظهر لهم ضعفك عند سيئاتك فكان منهم الترفع عن النظر إليها والشرف في سترها، والكرم في نسيانها، وتبدى ضعفك في الشح المرتجف، والكرم المتردد والشمائل التي ضعفت النفس عن حملها، أو طرحتها لثقلها. فكل شيء منا يخبر عنا، كل قول يفشي المكنون المستتر في خبايا النفس، كل خلجة وجه، كل رجفة موقف كل كلمة تقول حقيقتها غير المنطوقة أيضا، من خلال الحس والشعور والفعل، ومنتهى الزبد اطراف الساحل فيذهب جفاء ويبقى للناس منك بمقدار صدقك، وبمقدار طهر قلبك، وبمقدار صفاء نفسك. ويبقى لك من الناس من ظل بجوارك بعد كل ضعف عارض عليك ألم بك، سلب منك إيمانك بقوتك..وقدرتك..

الجزم يقتضي اليقين، وحتى تجزم بصدق أحد، عليك أن تتعرف على عدد لحظات ضعفك معه، لحظة الكسر، ولحظة الوهن والفقر والعجز، أما القوة، والغنى، والقدرة فإن هذه صفات من أفعالها أنها تستجلب الناس لك، وتجمعهم عليك..!،

خمسون ضعفا.. تعني الأنسان الأكثر صدقا لك في محبتك، لأنك قد أظهر الله لك فيما مضى من عمرك الخذلان ممن حولك في لحظة الضعف الأولى، والحاجة الأولى، وحجاب الستر الأول، والعجز في أوله، وقبل تمامه، انزاح امامك ستائر كثيرة عن زيف عظيم، في المواقف والمشاعر والقلوب وحس نبضها، ولأن الله تعالى أظهر لك أناسا كالظل يمشون خلفك طالما انت في الشمس، فإن أصابتك ظلمة لم تجد منهم أحدا حولك.

كلنا قد خذلنا في موضع من مواضع الطمأنينة، وهذا هو السبب الذي يجعلني أقول لك ابحث عن المخلصين لك من خلال عدد لحظات ضعفك، وبعددها لتكن المنازل، والدرجات، ويتعين عليك حين إذ أن تدفع لهم برضا الحب كله، والوفاء كله، والصدق بتمامه. فمن عاش معك خمسين ضعفا لك ولم يخذلك، ولم يستبدل بك غيرك، ولم يؤثر السلامة بعيدا عنك.. هو بحق من صنائع رحمة الله بك، وعظيم نعمته عليك. هو بياض اللحظة النادرة في زيف ممتد لكل شيء ولا يستثني شيئا. فما أقسى الخذلان عند شدة الحاجة، وما أعظم الظمأ عند طول السراب وبعده.