هزم ترامب.. لكن ماذا عن ”الترامبية“؟ «2»
تختلف الأحزاب والحركات الشعبوية القومية الراهنة في الغرب «مع وجود أطروحات وممارسات متشابهة» عن الأحزاب والحركات القومية النازية والفاشية التي شهدتها أوروبا منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي تسببت في مآس دامية من قتل وترهيب وإبادة لقطاعات واسعة من الشعوب الواقعة تحت تسلطها، كما تتحمل مسؤولية اندلاع الحرب العالمية الثانية التي خلفت دمارا شاملا وعشرات الملايين من القتلى والجرحى.
الخطاب القومي الشعبوي المتطرف المعاصر يعلن تمايزه عن تلك الحركات الفاشية القديمة، من خلال إعلانه نبذ العنف وإحتكار السلطة واحترامه وتقبله للتعددية والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، غير ان ذلك يحتاج إلى تأكيد على صعيد الممارسة، خصوصا مع موقف ترامب الذي أعلن فوزه مبكرا وقبل انتهاء عملية فرز الأصوات، كما رفض قبول نتائج التصويت التي أفادت بفوز منافسه الديمقراطي بايدن متهما الديمقراطيين بالتلاعب وسرقة فوزه بدون أن يقدم أية أدلة على ذلك، كما رفض أثناء مناظراته الإنتخابية مع بايدن إدانة المجموعات النازية والمليشيات المتطرفة الأمريكية.
كما يتباين هذا الخطاب القومي الشعبوي عن مواقف اليمين المتطرف المستند إلى قاعدة أيدلوجية واضحة المعالم في تجلياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما هو الحال مع بروز ظاهرة الريغانية في الولايات المتحدة والتاتشرية في بريطانيا في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي والتي مهدت الطريق لهيمنة الليبرالية الجديدة المعولمة.
تعلن الحركات القومية الشعبوية ازدراءها للنخب الحاكمة والطبقة السياسية التقليدية وسياساتها، كما توجه خطابها للفئات المهمشة والمحبطة والعاطلة وخصوصا في الأرياف والأطراف، والتي تشعر بأنها متضررة من الاندماج في نظام العولمة أو الاتحاد الأوربي، بما تتضمنه من خروج رؤوس الأموال والمصانع والشركات إلى الخارج بحثا عن الربح والأسواق والعمالة الرخيصة «الولايات المتحدة مثالاً» والتي يفاقمها المخاوف المتزايدة من خطر الهجرة الشرعية وغير الشرعية، إلى جانب تفشي الإرهاب المرتبط بظاهرة تصاعد الإسلاموفوبيا في الغرب.
اللافت للنظر ان الخطاب القومي الشعبوي يقوم بشكل نفعي «براجماتي» بإعادة تسويق بعض الأطروحات اليسارية عن طريق الخداع والتضليل، وهي استراتيجية للوصول إلى السلطة وكسب النفوذ السياسي من خلال استثارة المشاعر الشعبية ومخاوف وتطلعات قطاعات واسعة من الشعب، وذلك من خلال الخطابات والدعاية الحماسية مستخدمين المواضيع القومية والشعبية محاولين استثارة عواطف الجماهير، وهو كما حصل مع ترامب في الولايات المتحدة ولوبان في فرنسا وهايدر في النمسا وجانمات في هولندا وديلن في بلجيكا وبوريس جونسون في بريطانيا.
مارين لوبان في كتابها ”كي تعيش فرنسا“ تستحضر العديد من أقوال المفكرين والسياسيين اليساريين، بل وكارل ماركس نفسه، مبدية إعجابها على بدايات هذا اليسار، غير انها اعتبرت أن هذا اليسار «الإشتراكي / الشيوعي» خان مبادئه وشعاراته، وبأن هذه الأهداف باتت تحملها الآن ”الجبهة الوطنية“، من جهة ثانية اعتبرت لوبان أن ترامب وبوتين «اللذان يتبنيان الخطاب ذاته مع بعض الفوارق» يشكلان الآن ثنائياً، بانتظار انضمامها إليه.
بات العديد من ممثلى وقادة التيارات القومية الشعبوية يسيطرون فى عدد كبير من الدول المهمة حول العالم منها روسيا والهند والولايات المتحدة وبريطانيا والبرازيل وإسرائيل وتركيا والمجر وبولندا، كما يشاركون فى الحكم فى بلدان منها إيطاليا والنمسا.
حقق الخطاب القومي الشعبوي نجاحات متتالية في غالبية الدول الأوربية ففي فرنسا انحصرت المنافسة عمليا في الانتخابات الرئاسية في مايو2017 بين اليمين الليبرالي «إبمانويل ماكرون» واليمين القومي الشعبوي «مارين لوبان» ولم تهزم لوبان في دورة الإعادة الثانية، إلى من خلال دعم غالبية القوى السياسية بما في ذلك الحزب الجمهوري والحزب الأشتراكي واليسار والنقابات لماكرون، وفي إيطاليا نجحت الأحزاب الشعبوية المعارضة للاستفتاء، وخصوصاً ”حركة خمسة نجوم“ و”رابطة الشمال“ لانفصالية، في حشد أغلبية تراوحت بين 54 و58%، ما دفع رئيس الوزراء السابق ماتيو رينزي للاستقالة.
وفي بريطانيا نجح التيار الشعبوي اليميني فى بريطانيا، والذى يقوده جناح في حزب المحافظين بقيادة بوريس جونسون ويضم جزب الإستقلال، فى حث البريطانيين للتصويت لصالح الخروج «بريكست» من الاتحاد الأوروبي فى يونيو 2016، كما أستطاع بوريس حونسون الذي وصل إلى زعامة حزب المحافظين من تحقيق فوزا ساحقا على حزب العمال والوصول إلى منصب رئيس الوزراء. وفي ألمانيا، حقق حزب ”البديل لألمانيا“ اليميني الشعبوي سلسلة من الانتصارات الانتخابية في السنوات الأخيرة، مستغلا الاستياء الشعبي من تدفق المهاجرين إلى البلاد.
كما يسجل الوضع نفسه في دول مثل النمسا وهولندا وإسكندينافيا، حيث يتصاعد اليمين المتطرف، وكتب زعيم الحزب اليميني المتطرف في هولندا جيرت فيلدرز، على ”تويتر“ معلقا على فوز ترامب في انتخابات 2016 اليوم ”انتصار تاريخي لنا جميعا“
كذلك أعرب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، والرئيس التشيكي ميلوس زيمان، آنذاك اللذان يتعرضان للانتقاد بسبب خطابهما القومي الشعبوي والمعادي للهجرة عن تأييدهما لفوز ترامب.
يعتقد الدكتور جاك غولدستون: أستاذ السياسة العامة بجامعة ميسن بالولايات المتحدة الأميركية " أن فوز دونالد ترامب «2016» كان محطة مفصلية بالنسبة للتيارات اليمينية في الدول الغربية. وأن اليمين المتشدد سوف يفوز في أكثر من استحقاق انتخابي ما دام يستغل خوف الناخب الغربي على هويته. إن هناك اختلالات كثيرة تعصف بالمجتمعات الغربية، وعندما تكون هنالك اختلالات فإن التيه يغلب على الشعوب، ومن ثم فإن هذه الشعوب تتساءل: كيف يمكننا أن نضمن نقاءنا وصفاءنا؟
لا يمكن هنا تجاهل عوامل مهمة ساعدت في تصدر الخطاب القومي الشعبوي في الولايات المتحدة والدول الغربية، نذكر من بينها التمظهر والتخندق الهوياتي المتزايد لدى الشعوب الغربية، خصوصا إزاء مسائل الهجرة والإندماج والأختلافات الثقافية وتصاعد الأرهاب وما يسمى ”الأسلامو فوبيا“، وذلك في ظل أزمة بنيوية «اقتصادية. اجتماعية. سياسية» شاملة، إلى جانب فشل واهتراء النظام السياسي وفساد الطبقة السياسية البيروقراطية الحاكمة، مما أدى إلى إفقار وتهميش وعطالة قطاعات وفئات اجتماعية واسعة بما في ذلك الطبقة الوسطى، والتي فاقمتها الليبرالية الجديدة ونظام العولمة.
مع أن الدستور الأمريكي لا يفرق بين الأقليات والأثنيات المختلفة من حيث الحقوق والواجبات، غير أن هذا الانقسام والتمدد العرقي - الاثني له انعكاساته السلبية في المجتمع وخصوصًا في استثارة الميول الانعزالية - العنصرية لدى قطاعات واسعة من البيض، خصوصًا مع مجيء باراك أوباما كأول رئيس أمريكي أسود، لكنه لم يستطع لأسباب عدة ترجمة شعارات التغيير والأمل التي طرحها على أرض الواقع..
في حين حظيت الشعارات الشعبوية لدونالد ترامب والمتعلقة بالهجرة وتطوير الاقتصاد والبنية التحتية، ونقل الشركات الأمريكية العاملة في الخارج إلى داخل الولايات المتحدة، وإجراءات الحماية الضريبية بصدى كبير بين العمال البيض وسكان الأرياف وكبار السن وغير المتعلمين، وقبل كل شيء ما يسمى «المسيحيين الأنجيليين الجدد» وهي مجموعات انتخابية كبيرة تتركز في الغرب والوسط والجنوب الأمريكي، بل إنه استطاع اختراق ولايات محسوبة على الديمقراطيين «ما يسمى الجدار الأزرق» وهو ما ضمن له الفوز على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون في انتخابات 2016، التي اعتمدت في المقام الأول على أصوات الطبقة الوسطى والأقليات العرقية والمرأة والمتعلمين وسكان المدن وهي مجموعات تصويتية كبيرة ولكنها تتركز في ولايات دون غيرها، كما أن نتائج الأستطلاعات الأولية التي أفادت بتقدمها الواضح على ترامب، لعب دورا في تقاعس عدد كبير من الناخبين الديمقراطيين عن التصويت مما أضعف مركزها الانتخابي.. للحديث صلة