الأحساء والإنسان
تتربع الأحساء على مخزون هائل من الثروات، كواحدة من أجمل مدن المملكة وأهمها، باعتبارها إرث تاريخي وتراثي وحضاري يفخر به أهل الوطن بجميع أطيافهم، فعلى تخومها الغنية بالطبيعة والتاريخ يعيش الإنسان الأحسائي معنى آخر للحياة، فهو ينعم بنكهات هجرية وبخيرات طبيعية حباها الله وأودعها بين جنبات هذه الأرض الطيبة.
وكيف لا يكون ذلك وهذه هي «هَجر» الماضي والحاضر والمستقبل، التي قال فيها شاعرها جاسم الصحيح: هي الأحساء قبلتي القديمة والهوى الدائم .
هذه الواحة الخضراء والحيوية بمعالمها المتعددة من أرض وطننا الغالي المملكة العربية السعودية أصبحت اليوم معلماً تراثياً وحضارياً عالمياً لأبناء الوطن والوافدين إليها من الأقطار العربية والعالمية على حد سواء، ينعمون بخيراتها ويستفيضون بعطاء تاريخها العريق وحاضرها العظيم، ولها في كل يوم قصصاً تحكيها من عطاء الإنسان فيها ومن مواقعها التاريخية المشهورة منذ القدم.
الحديث عن الأحساء ليس حديثاً ترفياً فائضاً عن الحاجة، بل ينبوع يتدفق من عيونها المترامية، ووميض يتجلى في ثنايا قادتها ومسؤوليها، فهذا هو ابن الأحساء الذي يهيم في أطرافها وينسج بمخيلته خيوط المحبة والتعايش والتسامح عبر أزقة قراها وهجرها ومدنها، تجده مفعماً بالراحة والسكينة واللين والتواصل بين الجميع.
ما أن تطأ قدميك واحة الأحساء حتى تتنفس هوائها وتستقبلك بتعدد تضاريسها، فما بين جبالها وسهولها ونخيلها ومياهها العذبة بساطة واحتراماً ورحابةَ صدرٍ.
فوق أعلى مرتفعات جبال العيون والشعبة والقارة، وما بين ثنايا مسجد ومنتزه جواثا الأثري وبحيرة الأصفر ذات الطبيعة الخلابة، تنبسط واحة الأحساء بنخيلها الخضراء ورمالها الصفراء ومياهها العذبة المتجذرة في التاريخ، والتي تعتبر احدى روائع العالم وأهمها، ومن أكثر الرمال والصخور والآثار العظيمة التي تعود بتاريخها إلى آلاف السنين، هنا وفي أعلى هذه القمم الشامخة والرمال الذهبية نرفع راية التوحيد خفاقة ونؤذن بصوت واحد مع كل فريضة «الله أكبر» ونستبق الخيرات على امتداد البصر.
هذه التضاريس التي سكبها سمو الأمير سلطان بن سلمان حفظه الله حروفاً عندما قال: أهل الأحساء مع كل هذه الثروات التي حباها الله لهم فهم من أجمل الناس وأحسن الناس يخدمونك ويرحبون فيك وكأنك أحدهم «انتهى»، هذه السجايا التي يجسدها أبناء الأحساء في الجود والكرم والعطاء وطيب النفس والصبر على الغربة في سبيل طلب الرزق، والسير في طريق العلم دون ملل أو فتور، إلى حين الوصول إلى أعلى المراتب، بما فيها الاهتمام بالتواصل المجتمعي، وبذل الغالي والنفيس ولو على حساب النفس والأهل.
فما بين استكانة شاي، ومفاكهة الأصحاب بين البساتين، وتحت سعفات النخيل وانبعاث دخان «الطبينة» قصص تحكى وعجائب تروى أدباً وشعراً ونثراً، كما لو كان الحكواتي يرويها في مقهى حارة نائية من أطراف الأحساء القديمة.
هذه الحكايات التي تُحكى للأجيال عبر مر العصور والتاريخ، بزغ وأشرق من حروفها عمالقة الطب والعلم والفن والأدب، فنجد اليوم الطبيب بسماعته وسط المرضى على درجة عالية من الثقة والمهنية والأمانة ينتشل الأجساد من أوجاعها ويخفف من آلامها، والمهندس المعماري في أعلى الأبراج يخطط ويصمم، والمعلم في مدرسته بين طلابه يربي ويوجه، والرياضي في الملعب يحقق الأنتصارات والإنجازات، والموظف المسؤول في مكتبه يؤدي مهامه الوظيفية، وعالم الدين في محراب الصلاة يؤدي صلاته مع جموع المصلين.
وأمام هذا التقدم والتطور الذي يشهده أبناء الأحساء في حاضرهم وفي وطنهم العظيم، والذي جسدته رؤية حكيمة وقيادة شابة في استثمار الطاقات والمواهب والمحافظة على عمق التاريخ والتراث، نجد ابن الأحساء جَسور بطبعه وله ذائقة أحسائية موغلة في التاريخ، فلا زال يعشق الأرض والمكان ويهوى الأصالة والعنفوان في مخيلته وفي طبيعته، فما أن يعود الطبيب الحاذق والمهندس والعالم والمعلم والرياضي والمسؤول إلى بيته وفي وسط أسرته، نراه يخلع رداء المهنية على حائط جانبي، ومتوجها لاستكمال ورده اليومي ليكون جنباً إلى جنب مع أهله ووالده وأبناءه وسط البساتين، يحرث الأرض ويزرع الشجر ويسقي النخيل بينابيع المياه العذبة، وفي نهاية المطاف وعند غروب الشمس يتحولق مع والده وأبناءه مبتسماً تحت سعفات النخيل يحتسي كوباً من القهوة مع بعض «تميرات»، ومنحنياً أمام والده يطلب منه دعوة صادقة يرفعها له نحو السماء.
هذه الروايات بتفاصيلها عبارة عن فصول من التاريخ شهدتها الأحساء وتُحكى للزائرين كحصيلة لتراكمات حضارية وثقافية تعود إلى أزمنة ماضية، باعتبارها أكبر واحات النخيل الطبيعية في العالم، وفي اتصال دائم مع حضارات العالم وأعرقها منذ القدم، وجسراً ممتداً مع الدول المجاورة.
فإذا كانت الأحساء بهذه المكانة على صفحات التاريخ، فإنها اليوم لم تفقد ذلك التأثير في التاريخ المعاصر، وما زالت تحظى بالاهتمام الكبير على جميع الصعد والمستويات العلمية والمهنية.