منتدى الثلاثاء: عشرون عامًا من الفاعلية والنجاح
معرفتي بالمنتديات الثقافية الشفهية التي تقوم على المحاضرات والنقاشات تبدأ من انتقالي الكلِّي للعمل في الرياض، مُعَلِّمًا للغة العربية في ثانوية عامّة عام 1411 هـ بعد أن كنتُ أزور هذه المدينة وأمكث فيها فترات متقطِّعة... عرفتُ منتدياتٍ وسمعت عن لقاءات تكاد تغطِّي أيام الأسبوع؛ لكن أحدية راشد المبارك رحمه الله كانت بداية معرفتي المباشرة بالمنتديات، من خلال محاضرة ألقاها المفكِّر الصديق والقريب إبراهيم البليهي. وقد استمرت علاقتي المتقطِّعة بذلك اللقاء الأسبوعي، الذي كان مؤشِّرًا على ما تعيشه مملكتنا من تغيُّرات وتطوُّرات، وبقيتُ مستمِعًا أو مداخلا؛ دون إسهام مباشر؛ حتى دُعِي أخي الدكتور إبراهيم؛ لإلقاء محاضرة؛ حظيت بتقدير وتفاعل ونقاشات طالت كثيرًا، حول حرية التعبير والاعتقاد...
كنتُ قد وجدتُ في مثل تلك اللقاءات متنفَّسَا لما نعانيه آنذاك من ضغط صحوي في التعليم العام، وهو ضغط ومَدٌّ كان يكرِّس كثيرًا من أدواته ومساعيه لتعقُّب الأدب والأدباء والنقد والنقّاد؛ بهدف تفريغ تلك المساحات المؤثرة والناشزة بعض الشيء، وتطويعها لخدمة المد الصحوي!
بُعَيْدَ وفاة محمد شحرور تواصل معي الصديق منصور النقيدان؛ مبديًا رغبته بأن أكتب في موقعهم ”كيوبوست“ مقالة عن شحرور وفكره... وهي مقالة جلبت تاليًا رغبة منظمي منتدى الثلاثاء الثقافي للتوسع في تلك الفكرة، وتقديمها على شكل محاضرة، وقد لبَّيتُ تلك الدعوة مسرورًا، وضاعفتْ ما ورد في المقالة أربع مرات إن لم يزد.. من هنا بدأت معرفتي بلقاء منتدى الثلاثاء تتعمَّق؛ بعد أن كانت معرفة بسيطة جاذبة نقلها لي أخي الدكتور إبراهيم، وأثنى فيها على المكان وأهله.
راق لي ذلك الترتيب، وأسرتني تلك البشاشات، وطاب لي ذلك التفاعل وتلك النقاشات، التي زامنت محاضرتي وتلتها، وأثرتها... وبعد محاضرتي تلك دعاني القائمون مشكورين للمشاركة في أكثر من فاعلية ونقاشات، وتداخلت وتقاطعت فيها مع الشيخ الدكتور حسين الخشن من لبنان، وتلك استضافة موفقة ما زالت حاضرة في ذهني، استضافة وحضور يسهم من خلال ذلك الوعي الذي شهدته تلك المناقشات في ردم فجوة طائفية في الداخل والخارج... وذاك توجُّهٌ حميد لحظتُ ولمست وسمعت أنّ المنتدى يوليه كثيرًا من اهتمامه، وما زلت أرغب بمزيد من تلك الجرعات المباركة الفاعلة والمؤثرة... كما أتيحت لي مشاركة أخرى في ختام أعمال المنتدى لهذا العام، عرفت من خلالها الفاضل الدكتور زيد الفضيل، وتعرَّفتُ عليه، من خلال كلمة رصينة لافتة ألقاها في ذلك اللقاء...
لم يُتَحْ لي احتكاكٌ مباشر بمنتدى آخر كما حدث لي مع منتدى الثلاثاء هذا؛ لكنني أزعم أنّ تفاعلَ القائمين عليه ووعيهم وتفاهمهم أمورٌ وسماتٌ جعلت أدوراهم أكثر تناغما وفاعلية، وهذا يقصر طريق المنتدى في تحقيق أهدافه الثقافية والفكرية والأدبية... وهذا يجعلنا نتطلع لقيام منتديات أخرى تماثل هذا المنتدى وتحاكي ما يدور فيه وحوله، وتتوزع في أرجاء مملكتنا الفسيحة الممتدة المتنوعة: تضاريسَ وأفكارًا، وتقوم بالأدوار نفسها، وتستلهم التجربة ذاتها...
من جانب آخر ذي صلة أود أن أشير إلى الزيارة التي يصطحب فيها القائمون على المنتدى ضيوفه في زيارة معالم محافظة القطيف، وهي زيارات ومشاهد تسهم في ربط الحاضر بالماضي، وتبرز حياة التسامح القريبة، التي كان ينعم بها أهل المنطقة، وما زالوا... وكنموذج على ذلك المكتبات الخاصة التي يجد زائرها كتب السنة والشيعة جنبا إلى جنب كمكتبة الشيخ حسن الصفار، ومثلها في التنوع والثراء مكتبة ”جدل“ لعلي الحرز التي يقوم عليها شخصيا، ويستقبل فيها عموم محبّي الاطلاع والثقافة.
اللقاءات المباشرة تخفِّف الاحتقان، وتمتصّ الجنوح والجموح والتطرّف، وتعوِّدُ المتلقي على التفكير الحر، وقبول الآخر المختلف... وهكذا تفعل المنتديات، وهكذا يبرز هذا المنتدى..
أبارك للمنتدى وللقائمين عليه قطع كل تلك المسافات من النجاحات، وأرجو لهم مزيدًا من التوفيق والنجاح..