آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

حرية الاختيار وThe Social Dilemma

بسام المسلمي *

الجزء الإنجليزي من العنوان هو عنوان لأحد الأفلام الوثائقية الدرامية التي ظهرت في هذه السنة «2020م»، والذي يعني ”المعضلة الاجتماعية“. الفيلم يطرح تساؤلات ويثير إشكاليات عن وسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص وعن الإعلام ووسائله بشكل عام. مدة الفيلم 89 دقيقة تحدث خلالها مجموعة من المتخصصين في الإعلام من أكاديميين وأساتذة جامعات وعاملين في مجالات وشركات إعلامية مثل جوجل وتويتر وفيس بوك وغيرها. كذلك، فإنه قائم على قصة درامية تجسد فكرة الكتّاب وترتبط بحديث الضيوف الذي يتخللها ويؤكد على فكرتها والذي يطل بين فينة وأخرى كالإعلانات ”العلمية“ إن صح التعبير.

طبعا، الفيلم لم يتحدث عن المشاكل والأمراض العضوية والنفسية بشكل رئيس. ولكن، يصب الفيلم اهتمامه على قضية محورية وهي كيفية استلاب وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لحرياتنا واختياراتنا وخصوصياتنا برضانا بل وربما غبطتنا أيضا. فوسائل الإعلام تسرقك وأنت تضحك وتصفق لها وربما تساعدها على ذلك معتقدا بأن ذلك كان باختيارك وبرضاك فعلا. فهي توهمك بأنك صاحب السيطرة والقيادة والتحكم فيها وفي نفسك أيضا والحقيقة هي على النقيض من ذلك تماما. فهي تقيدك وتحصرك بخيارات وبدائل هي اختارتها كما وكيفا وقدمتها لك ثم أتاحت لك الاختيار منها فقط. فأنت لا تستطيع غالبا أن تختار من غيرها أو أن لا تختار من خياراتها. فهي تقدم لك العسل لتأكله وتنام وتموت فيه هنيئا مريئا مرحوما. فوسائل التواصل الاجتماعي وأخواتها تخدرك وتتغلغل بين أحشاء عقلك وتفكيرك لتدرسك بشكل دقيق ومستمر بواسطة خوارزميات تعتمد على التحليلات الدقيقة المستمرة التي تطور وتصحح وتعدل من نفسها بشكل تلقائي ودائم. فهي تعطيك ما تريد أنت وما تريد هي في الوقت نفسه بعد ”عقد زواج“ ما بين رغباتك وحاجاتك وحاجاتها وأهدافها المتنوعة وإن كانت ”تجارية“ في أساسها. وبذلك تضمن شغفك وتعلقك وإدمانك لها بكل سهولة ويسر ورضى وامتنان. ولا يعني ذلك أنها لا تضمِّن محتوياتها أي أهداف أيدولوجية أو سياسية أو غيرهما، وإنما يعني أنها تروج لكل شيء يدر عليها أرباحا كبيرة ومستمرة. فالذي يدفع أكثر هو من يحظى ويفوز بقلبها وحبها دائما.

فوسائل التواصل الاجتماعي وشقيقاتها تقدم كل ما فيه راحتك حتى تخدرك تماما لتقوم، نيابة عنك، بكل ما كنت تقوم به قبل أن تفقد عقلك ووعيك وحريتك. فهي تفكر عنك وتقرر عنك وتختار لك لتصبح هي سيدة الموقف وسيدتك بعد أن كفتك مؤونة الحرية في اختيار طريقة حياتك وموتك معا. فهي تلعب على وتر إنساني حساس مثل الفضول والتفاعل والتجاوب والتعاطف مع الآخرين بغض النظر عن مدى قوة علاقتنا بهم. ومن هنا فليس دقيقا أن تعتقد بأنك المفكر الوحيد عندما تفكر في شيء أو أنك المقرر الوحيد حينما تقرر أو أنك المختار الوحيد عندما تختار. بل إن هناك من يشاركك التفكير والتقرير والاختيار. وقد يكون له نصيب الأسد في هذه الأمور. والفيلم المذكور قد أنفق وقتا كثيرا في شرح كيفية استحواذ وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا وتغلغلها في داخلنا لتحول بيننا وبين قلوبنا. لاشك طبعا أن فهم وإدراك فلسفة وآلية وطرق عمل هذه الوسائل يفيد في الترصد لها والهروب من هيمنتها وهذا ما حاول الفيلم جاهدا إبرازه دائما.

ثم بعد ذلك اقترح المتحدثون في الفيلم بعض ما يمكن عمله كي نتحرر ونستقل من هذا الاستعمار الاجتماعي ونسترد حرياتنا ونفوسنا المسلوبة. فقد اقترح بعض المتحدثين بأن نحذف بعض ”حساباتنا“ في وسائل التواصل الاجتماعي التي زرعت فينا أفيونها وإدمانها حتى اعتقدنا بأننا لا يمكن أن نستغني عنها أبدا. واقترح آخر من المتحدثين بأن لا نستجيب لبعض اقتراحات تلك الوسائل مثل ما يقوم به يوتيوب في موصى به حينما يوصيك بمشاهدة فيديو معين لتنهال عليك سلسلة لا تنتهي من الفيديوهات. وكذلك أوصوا بأن نتجاهل الإيميلات التي تخبرنا عن مناسبة أو رسالة أو حادثة لصديق لنا في تلك الوسائل فقط وليس في الحياة الحقيقية. وفي نفس السياق، فقد أوصى البعض بأن نضبط أنفسنا ونقنن تعاطينا لتلك الوسائل وذلك بفرض وتطبيق القوانين الصارمة في التعامل مع تلك الوسائل وعدم التهاون في ذلك أبدا. فمثلا، تستطيع أن تفرض على نفسك بأن تترك هاتفك الذكي خارج غرفة النوم في وقت النوم. وتستطيع أيضا أن تضبط هاتفك على عدم اشغالك بتنبيهات وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات التي لا تنتهي. وتستطيع أيضا أن تضع قوانين في وقت ومدة ومكان استخدام أطفالك لها داخل بيتك. الواقع أن وسائل ضبط استعمال وسائل التواصل الاجتماعي كثيرة ولكن التقيد بها وتفعيلها بشكل دائم وصارم ليس هينا أبدا. ومما يزيد الأمر صعوبة، هو أنك لا تستطيع التخلص منها بشكل تام وأنك تخاف من الانغماس فيها بشكل مطلق. فأنت بين نارين حارقتين قاتلتين. لذلك، فإنه لا مفر من البحث عن منطقة وسطى دافئة وغير حارقة بين تلك النارين ولزومها بشكل دائم. وهنا تكمن الصعوبة.

وقد أثيرت في الآونة الأخيرة في قنوات التواصل الاجتماعي كتويتر وغيره بعض القضايا ذات الصلة بهذا الموضوع. فقد كان الحديث عن ”نت فلكس“ وجنوحها إلى ضخ الأفلام التي تروج للمثلية بشكل فاضح، متصدرا تلك المنصات الاجتماعية بين مصغِّر ومكبِّر لذلك الأمر. ولعل التنافس التجاري والوضع الاقتصادي وجائحة كورونا، التي جعلت المكوث في البيت لمدة أطول أمرا محسوما، ساهموا في تدني رسوم الاشتراك في تلك القنوات. وبذلك انتشرت بشكل واسع ومن ثم زادت الحاجة إلى وضع تلك القنوات والبرامج موضع النقاش. ولاشك أن بعضنا لا يزال يتذكر جيدا كيف كان الوالدان يخافان على أبنائهما من ”خارج البيت“ فيما مضى من الزمن. ولكن المعادلة قد تغيرت الآن على ما يبدو وأصبح خوف الأبوين على أبنائهما من ”داخل البيت“ و”داخل الغرفة“ و”داخل الذات“ أكبر من ”خارج البيت“ و”خارج الغرفة“ و”خارج الذات“. فكل ما يمت إلى الوحدة والانفراد والانعزال والتفرد بصلة صار موحشا ومخيفا بشكل أكبر بكثير من الخوف من وحوش ”خارج البيت“ والأماكن العامة. فوحوش ”خارج البيت“ التي كانت مخيفة فيما مضى ربما أصبحت أليفة الآن وباتت الحاجة لها ضرورية للحد من الأمراض والمشاكل المحتملة من ”داخل البيت“ في الوقت الحالي. فالذي يفكر ويختار ويقرر بالنيابة عنك من ”داخل البيت“ الآن - أعني وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي - صار خطيرا جدا وأشد أثرا من ذلك الغول الذي كان في ”خارج البيت“ فيما مضى.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
محمد عبدالمحسن
[ الدمام ]: 23 / 9 / 2020م - 9:27 ص
الجيل الجديد يواجه معضلة وواقع أكثر مرارة من ذي قبل، جيل يتعرض لهجمات شتى، بعضها عبثي، وأُخرى تديرها أجهزة خبيثة تعمل على مدار الساعة، مستخدمة الوسائل الناعمة، وموظفة علوم النفس والإجتماع للسيطرة على العقول والقلوب.
إنه واقع مؤلم ينبغى التصدى إليه بالتعاون بين المجتمع المدني المنظم والأجهزة الحكومية المعنية للحد من آثار تلك الهجمات المتتالية على الناس كافة، وعلى صغار السن خاصة..!!..
2
علي الجاسم
23 / 9 / 2020م - 11:02 ص
ياصاحب القلم المتميز.... اصبح لزاماً علينا وبإرادتنا او من دونها مجارات وسائل التواصل...

ووحوش الداخل.. نحن من نجلبها لبيوتنا بإرادتنا او من دونها... لقد سيطرت بالفعل وانتهت...🌹