المتخاصمون خلف مؤشر الكورونا
قراءة الأرقام والإحصائيات لا تشبه حتما قراءة الكف والفنجان، بيد أن كلاهما عرضة للخداع والتضليل، ولتسلل شيء من خيالات ورغبات القاريء هنا أو القارئ هناك، وفي يوميات الكورونا وجدنا الكثير يجتهد في تفسير الأرقام وتوجيهها، تارة بأدوات الخوف والتهويل، وتارة برغبة الإثبات والتأكيد على رؤية ما، لذلك تبدو هذه الأرقام مادة طيعة ولينة، طالما اخترنا التغاضي عن ارتباطها باعتبارات أخرى، لا نملك الوصول إليها، أي أن مؤشر المرض ليس مسطحا كما يظهر للناس، بل له عمق وامتداد يجعل من قراءته مهمة تستوجب القبض على كل العوامل المؤثرة فيه، ومن ثم العمل على تفكيكه وتركيبه مجددا لبناء رؤية أو تصور متين عن اتجاهات المرض.
هنالك دائما خيط رفيع بين الأوهام والحقائق في قراءة الأرقام، فإذا نجت الأرقام من الخطأ أو التزوير، لم تنجو من إساءة التحليل والتفسير، في العالم كانت المواجهات مستمرة بين الفرقاء والخصوم في شأن توضيح الأسباب وراء مؤشرات المرض، كان المرض يمشي بحرية في كل مكان، بينما يتخندق الناس خلف مواقف وآراء تصف أحوالهم بقدر ما تصف المرض، تصف انتماءاتهم ومخاوفهم، أكثر مما تصف الصورة الفعلية للتحكم باتجاهات المرض.. ما بين اتهام الحكومة، إلى اتهام الناس، الأمر الذي كان يتحول إلى معارك خلفية حول إدارة الأزمة، وإدارة الدولة، وإدارة المستقبل حتى.
لماذا هذه المقدمة…. ببساطة لأن هنالك من ينشغل في كل مرحلة في البحث عن مشجب لتعليق المسئولية عن ارتفاع المرض، وربما بدت هذه الرغبة مدفوعة بهاجس أخلاقي، بمعنى وعظ الناس وتنبيههم لمخاطر هذا السلوك أو ذاك، غير أنه في حقيقة الأمر لا يخلو من مواقف مسبقة، وتفسيرات مستعجلة، غرضها إثبات فكرة ما، دون صرف الكثير من الوقت في التحقق من جدارتها ومتانتها.
في الأيام الفائتة كانت التوقعات تشير إلى احتمالية ارتفاع الإصابة بالمرض بالمحافظة، بالنظر إلى طبيعة التجمعات الدينية التي تصاحبها، التجمعات التي شهدت انقساما اجتماعيا قبل انطلاقتها، غير أن هذا الانقسام لم يحل دون المضي في تنظيمها بالإفادة من التشريعات والبروتوكولات المتبعة، وكانت الشعائر التي تعرفها هذه التجمعات تصلنا عبر التغطيات المباشرة والصور الفوتغرافية ويظهر فيها الحرص على الالتزام واتباع ما جرى الاتفاق عليه لضمان سلامة المشاركين فيها.
قلت الاحتمالية قائمة ومتوقعة، بالنظر لحجم الحدث، وعدد المشاركين، تماما كما هو الحال مع التجمعات الكبيرة في المناسبات ومواقع العمل والأسواق، كلها تصبح عنوانا للحذر والترقب وحتى الهلع طالما ظلت احتمالية عدم الالتزام لدى الافراد والتساهل في تطبيق الاحترازات حاضرة، وظلت مخاوفنا من تخفيف الإجراءات المتبعة والانفتاح الكامل توجه مشاعرنا ونمط تعاطينا مع أخبار المرض.
كانت الأرقام المعلنة للمرض ومازالت تتحدث عن اتجاه انحداري على مستوى الاصابات، بالرغم من حقائق كثيرة كان يمكن الاستناد إليها طيلة الشهرين الماضين تتعلق بمناسبة عيد الأضحى، وفتح المساجد، وعودة الموظفين، والتجمعات العائلية، والاحتشاد في المطاعم والمقاهي، وغيرها من الممارسات التي ستكون محطة اختبار دائم لطبيعة الالتزام بالاحترازات الوقائية.. صمد المؤشر رغم كل تلك الأسباب الضاغطة على مخيال الناس وأفكارهم تجاه المرض، ورغم ارتفاع عدد الفحوصات المسجلة عبر التطبيقات المتاحة، واستمرت الحياة اليومية بعيدا عن ضغط الأرقام الرسمية التي كان الناس يعتمدونها كمقياس لتحديد شكل حركتهم وطريقة تفاعلهم مع المرض.
كان ذلك واضحا على مستوى مؤشر الوطن، أما مؤشر المناطق والمدن، فتراوحت بعض المناطق بين صعود وهبوط، لكن الأرقام حتى اللحظة لم تتحدث عن موجة صعود كالتي تلت عيد الفطر مثلا، ولا كالتي تواجهها بعض الأقطار العربية والأوروبية مثلا، علماً بأن مؤشر الإصابات يعتمد بالدرجة الأولى على نطاق الفحص الاستباقي والحالات المرضية التي يجري رصدها عبر المراكز الصحية.
التهاون أمر مرفوض حتما، غير أن التلاوم هو الآخر لا يمكن القبول به إذا كان مرصودا لاتهام فريق أو جماعة أو فئة بانتشار المرض، والأصل أن نبحث عن توافقات على إدارة الأزمة، لا تلغي إرادة الناس، ولا تذهب بنا إلى حدود المجهول في مستقبل المرض، أن نحفظ للناس حقوقهم في ممارسة حياتهم وفق الإجراءات والاحترازات المتبعة، وأن نقرأ بحذر معطيات المرض على الأرض، وقبل هذا وذاك أن نكف عن قراءة الأرقام بنحو مسبق كمن يقرأ الفأل في الفنجان!.