الحاج حسن رضي التاروتي «ابو فتحي» في ذمة الله.
قبل قليل بلغني وفاة الحاج حسن رضي التاروتي «ابو فتحي». تغمد الفقيد بواسع رحمته ورضوانه واسكنه الفسيح من جنانه، ومسح على فاقديه بالصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون.
كان المرحوم ابو فتحي آخر المتوفين من مجموعة من الاصدقاء الذين ربطتهم اواصر الصداقة منذ ريعان الصبا، وقد كنت شاهداً على هذه الصداقة التي جمعت المرحومين ابناء خالتي الاخوين حسن وعبد المجيد سليمان الشماسي والمرحوم يعقوب يوسف الاصمخ والمرحوم حسن صالح الليث.
لقد كانت هذه المجموعة تلتقي عادة في بيت خالتي المرحومة رباب «ام محمد علي» الواقع آنذاك في الجهة الشرقية من فريق «ركن» السدرة من حي القلعة، حيث كان لابناءها حسن وعبد المجيد مجلسهم الخاص بهم في سطح منزلهم ”خلوة“، وكانت نوافذها تطل على الدوالي شرقا، قبل ان يبني المرحوم حسن الجشي «ابو شوقي» منزلهم في تلك الدالية الصغيرة. وكانت صلتي وانا الفتى الصغير بأبناء خالتي تتعدى ما يربط عادة صبي صغير بأبناء خالته الذين يكبرونه سناً. كانا يرحمها الله يعاملاني كأخ أصغر لهما، يقدمان له كل الرعاية والاهتمام، يصحباني معهما في نزهاتهم القصيرة، ولا يتركاني لوحدي، وبالذات خلال العطل المدرسية، فكنت اقضي كثيرا من الوقت معهم في ذاك المجلس الصغير ”الخلوة“ حينما عادة ما كانوا يلتقون مع اصدقائهم ومنهم المرحوم ابو فتحي في عصور الصيف الحارة قبل انتشار الكهرباء، حيث الجو في تلك الخلوة السطوحية اقل قساوة من بقية اجزاء المنزل. وكانت لقاءاتهم كمجموعة تنعقد كل جمعة شتاءا وصيفا، بما فيهم المرحوم ابو فتحي الذي كان متزوجا في تلك الفترة وكان يعمل لدى احدى الشركات الاجنبية العاملة في مطار الظهران ومع هذا لا يتأخر عن الالتقاء بأصدقائه الا لسبب كبير.
في تلك المرحلة «نهاية العقد الخامس وبداية العقد السادس من القرن الماضي» لم يكن التلفزيون منتشرا ولا يخلو منه اي بيت كما هو الآن، ومن كان يملكه في القطيف يعدون على الاصابع، كما ان غيره من وسائل الترفيه، بما في ذلك كرة القدم والاندية الرياضية لم تكن بتلك الشعبية مثلما هي عليه في الوقت الحاضر.
فكانت القراءة خيار البعض «وبشكل خاص في اوساط اجتماعية معينة» مصدرا من مصادر التغلب على ساعات الفراغ.
ومن الطبيعي ان تختلف اهواء الناس في اختيار ما يقرأونه. ومعظم ما يقرأوه الناس آنذاك يأتي من خارج المملكة وبالذات من جمهورية مصر، التي كانت مجلاتها وجرائدها آنذاك هي الاكثر شيوعا من بين المطبوعات العربية وخاصة في اوساط القراء غير المتخصصين، خلافاً لبعض المجلات اللبنانية كمجلتي العلوم والاداب اللتين كانت تستقطب نوعا معينا من القراء.
فكانت ”الخلوة“ عامرة بالمجلات المصرية «الهلال، المصور، الكواكب، روز اليوسف، سمير، واخرى» التي كانا ابناء الخالة حريصان على اقتناءها بصورة منتظمة، ولا زلت اتذكر كيف كانت متاحة لكل زائر لذاك المجلس. فكانت تجذبني تلك الصور الملونة والرسوم الكرتونية، وتشدني لتفحص محتوياتها ومعرفة ما مكتوب فيها، ومن ذلك «وانا الصبي الصغير» تعلمت ابجديات القراءة الخارجية عبر هذه المجلات، ففتحت لي الطريق لاحقا للبحث عن الكتاب غير المدرسي الذي كنت اجد فيه عالما فسيحا وغنيا بمعارف لا حصر لها، لم يمنحني اياه كتاب المدرسة الابتدائية.
وبعد سنين من تلك المرحلة وانتقال ابناء خالتي من منزلهم بالقلعة الى منزلهم في حي البستان وزواجهم، وكنا قد سبقناهم في الانتقال من بيت جدي للبيت الذي بناه المرحوم والدي في حي دار الاماراة، والذي كان به مجلس اكبر من تلك ”الخلوة“ الجميلة غدوت انا من استضيفهم في منزلنا الجديد حيث كانوا يأتون صباح كل جمعة لنلعب سوية لعبة الورق «جوكر».. وقد استمرت تلك الايام الجميلة حتى بدايات النصف الثاني من ستينات القرن الماضي.
كانت الضحكات والتعليقات المرحة تهيمن على تلك الجلسات العذبة، حيث البساطة والمودة ديدنها وروحها الغامرة، وكان الجميع بما فيهم المرحوم ابو فتحي يتعاملون معي كأخ أصغر لهم، ولكن في نفس الوقت كندٍ لهم في اللعب والاشتراك في مختلف الاحاديث والنقاشات التي كانت تجري بينهم. ولكن ومن بعد 1967، وقد انهيت في ذاك العام المرحلة الدراسية المتوسطة، وبداءت المرحلة الثانوية، حينها زادت متطلبات الدراسة وتغيرت الأولويات واتسعت وتنوعت صداقاتي، وكذلك اهتماماتي كشاب يعيش في عالم يعج بحراكات صاخبة، كما كبرت المسؤوليات العائلية لجميع افراد المجموعة، وقلت اوقات الفراغ لديهم، فانقطعت تلك الجلسات العذبة التي كانت تجمعني معهم، ولكن بقيت المودة والمعزة لهم جميعا باقية في الفؤاد، ولا زالت الذاكرة محتفظة بتلك الصور للأيام الجميلة التي جمعتني معهم.
رحمهم الله جميعاً وطيب ثراهم ولهم جميعاً الذكر الطيب والدعاء بالرحمة والرضوان من رب العالمين، وانا لله وانا إليه راجعون.