آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

لا ربا بين المُواطِن والدولة وفْق هذه الشروط

السيد أمين السعيدي *

ضِمْن حدود العنوان أطرح الدليل ثم شرائطه؛ كما يلي:

الدليل:

1. أن أدلة حرمة الربا منصرِفة عن هذا النحو من التَّعاقُد؛ إذ هو فرد منعدم الوجود طوال تاريخ التشريع حتى مع وجود دولة للإسلام آنذاك؛ فعُموم الحرمة ناظر للحالات المعهودة في زمن تشريعها ومُنْصَبٌّ عليها؛ بالتالي تبقى هذه الحالة تحت عموم أصالة الإباحة.

وحتى على القول بأن الأصل في المعامَلات هو الحرمة لا الإباحة؛ فإنّ مورد الكلام مشمول للعُموم الفوقاني لدليل إباحة المعامَلات من هذا القبيل وكذا دليل الإباحة الخاص؛ فإنّ مثلاً البيع والإقراض ثبتت إباحتهما؛ فيَكون دليل الإباحة شاملاً لجميع البيوع والقروض إلا ما استثنى الشارع منها بشخصها والحال أنه استثنى أفراداً خاصة من الربا هي تلك التي كانت معروفة في زمن التشريع - سيّما مع الأخذ بعين الاعتبار قُبْح استثناء الأكثر؛ فهو أَحَلَّ هذا النوع من المعاملات ثم استثنى منها -؛ فتخرج خصوص تلك الأفراد من تحت دليل الإباحة فحسب لا غيرها. وهكذا الحال أيضاً على القول بأن الأصل في المعامَلات التوقف إلى أن يرد دليل على الإباحة أو الحرمة فيُحكم في ذلك بالإباحة أو الحرمة؛ إذ الإباحة كما عرفت ثابتة للمورد المذكور..

2. وإلا فبالأَولويّة قياساً إلى أن الربا بيْن الوالد وولده لا يَحرم، فالزيادة الربوية لأي طرف منهما جائزة، وكذا بين الزوجين؛ فهل بيْن الدولة والمُواطِن أقَل من ذلك؟

كلّا، بل وأَولَى؛ فتَكون مَورداً لجَرَيان قياس الأولويّة، مع ما للدولة والمُواطن من وجوب نَفَقة كل منهما على الآخر وهما في قوّة الشيء الواحد وأَشَد، سيّما مع لِحاظ أن الكلام في المعامَلات لا العبادات، والمعاملات كثيراً ما تَتطلَّب إعمال العقل الشرعي؛ فعلى ثبوت دليل الحرمة وشموله وخروج أفراد ربوية من تحته إلى الإباحة تخرج ببركة ذلك معاملة الدولة والمواطن بالقياس المذكور، وهو قياسٌ معتبَرٌ فقهياً؛ فيَكون المَورد من قَبيل تحديد المِصداق لمفهومه؛ هل هذا المصداق واقع تحت هذا المفهوم أم ذاك؟ وقد اتضح لك بهذا البيان وقوعه تحت المباح.

3. أن تُراث وكُنوز وثروات الدولة - عَمَلياً - بالأصل للمواطنين، فخَزينتَها بيتُ مال المسْلِمين، وريْعَه بالإجماع العَمَلي للمسْلِمين، وله مَصارف متعددة كلها تعود بالأصالة لصالحهم، هذا على أقل تقدير، فضلاً عما إذا قلنا بأن مالكيّة الإمام الإلهي هي مالكية بما هو مدبِّر لشؤون المسلمين، وهو ما إذا كان في زمن وجوده، وأما في زمن غيابه - فضلاً عن إحراز رضاه - فلا مَحالة من انتقال الأمر للحاكم الشرعي من جهة المسلمين وتصريفه في صالحهم منعاً للتعطيل وانسداد باب النِّظام واختلاله، والحال أن هذا رِبْحٌ ونَفْعٌ مما هو لهم يَعود برَيْعِ وأرباحِ الدولة عليهم؛ غاية الأمر أن العائد هنا لهم باعتبار المقابِل المالي المستثمَر منهم في الدولة.. بينما العِلّة المانعة هي مَفسدة الربا والحال عدمها قَطْعاً هنا؛ فيتحقق الانتفاء بالانتفاء ويجري أصل المَصلحة المذكور وهو من أصول الإسلام.

ولتقريب الدليل أكثر:

فإنه لا يوجَد مانع عن جَعل الدولة ضماناً اجتماعياً من ثروة الدولة لفئة من المواطنين دون آخرين؛ وهُم فئة المحتاجين، مع أن العدالة تقتضي إشمال الجميع في ذلك لا فئة دون أخرى؛ فإنّ المحتاج - بغَضِّ النظر عن ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السِّن والمَنكوبين وما شاكلهم - هو الذي تَسبَّب لنفسه بالاحتياج بسوء اختياره؛ حيث مثلاً لم يَدرس ولم يباشِر وظيفة كغيره فاحتاج، بخِلاف ذلك المواطن الذي بَذل مجهوده ودرس وعمل واكتسب المهارات والخُبُرات، فمُرَتَّبه واكتسابه هو في قبال مجهوده هذا الذي لم يَبذله ذاك؛ بالتالي كيف استَحقَّ ذاك من ثروة الدولة ما لم يستحق هذا والحال أن كل منهما مواطن منتسب إليها؟ فالعدالة في هذه الحالة تقتضي مَنْحَ الجميع على السَّواء، اللهم إلا أنّه لاعتبارات تنظيم شؤون المواطنين ومحدودية مال الدولة وسِعة مَهامِّها تَقتصِر الدولة على مَوارد ضرورة المَصْلَحة وتُراعيها مُتَلافِية الغني في ظل عدم احتياجه مستقطِبة تَسْوَية الحُظُوظ والفُرَص؛ إذ الغَرَض هو سَد الحاجة لا الثَّراء وزيادة النَّماء بما هو في كل ظرف. هكذا الحال هاهنا ولكن مع خصوصية إضافية؛ فإنّ المعاملة الربوية بين المواطن والدولة ليست ناتج مَنْحِ الدولة دون مقابِل كالضمان وحساب المواطن وإنما مقابِل استثمار الفرد في رأس مال الدولة ورأس مال الفرد في استثمارات الدولة.

4. شِدة صعوبة المعامَلات بين الدولة والمواطن من حيث إحصاء وتوزيع الفائدة إحصاءً وتوزيعاً حقيقيين فهو قَطْعاً أقرب لغير الممْكِن سيّما في هذا العصر وبالأخص مع سعة الدولة واتساع شؤونها وضَعفها المالي.. بينما عملها وأموال الشعب فيها وحيوية اقتصادها سواء للناس أو لنفس اقتصادها وضرورة عدم جعل المال في صناديق حافِزة أخرى غيْرها والحَيْلولة دون هِجْرتِه.. - أيضاً بالأخص مع سعة الدولة واتساع شؤونها وضَعفها المالي - من الضرورات الحتمية وإلا جَرّ ذلك في هذه العصور مصيبة هائلة على اقتصادها ومن ثم على كيان وبقاء الدولة نفسها..؛ بالتالي هنا الدليل على عكس سابقه من هذه الجهة، توجَد مَفسدة شديدة؛ فبفِعل العُسْر والضرورة وببركة قاعدة مَنْع العُسر التي لا تَختص بالفرد بل شاملة للدولة وكذا قاعدة لزوم حِفظ النظام، وحِفظ نظام الدولة بلا ريب من أهم أوليات الإسلام.

5. بل هو هذا منتهَى العَدالة متى ما ناسب الدولة وارتضته، وتحقيق العدالة أصلٌ واجب حاكم على كل شيء؛ وهُنا فمن حيث توزيع الثروة تحت عنوان الدولة والمواطن؛ فإنّ الذي يَضع ماله لَديها وتستفيد منه ليس كمَن لا مال له عندها تستفيده. وهذا كما تَرى لا ربط فيه بين فقير وغير فقير؛ فذاك لديه مال ووضَعَه واستَفادتِ الدولة منه وأعطته مقابِلاً وهذا لم يَضَع شيئاً سواء كان لديه مالٌ أم لا، فضلاً عن أنه يُصْلِح دخل الفرد ويقويه.

هذا كله فيما إذا ناسب الدولة وارتضته، وإلا فإنّ الوَدائع الخالية من العَوائد لا تَخالُف بينها وبين العدل؛ إذ هي عقد شرعي آخر تَراضاه الطرفان.

6. بلحاظ الأدلة أعلاه، لا أَكثَر من الشَّك في حُكم هذا المَورد؛ فنَقتصِر على القَدَر المتيقَّن وهو يقتضي عدم حرمة المعاملات المذكورة؛ فإنّ الأصل في كل الأشياء منذ الأول هو الإباحةُ والحِلُّ ما لم يرد دليل في باب يُجعَل أصلاً آخر يُستفرَغ منه الأفراد، والحال أننا حسب أَبعَد الاحتمالات نَشك؛ فعلى الأقل نجري البراءة الشرعية في الزائد، بل وأساساً لا مَنْشأ للتّحوّط؛ إذ هو قائم على الاستدعاءات العُقَلائية؛ والحال عدمها هاهنا.

وغيرها من الأدلة.

▪︎ بالتالي؛ لا حاجة في هذا المَورد حتى لما يسمّى بالحِيَل؛ إذ أصلاً لا موضوع لها كما اتضح لك؛ بَلَى، من باب زيادة اطمئنان لا بأس.

شروط الإباحة «تدقيق مَورد الكلامِ والجَرَيان»:

1. أن عدم وقوع الربا المذكور بشرط أن يَكون بين الدولة والمواطن والربح لهما، أو الربح للمواطن لا العكس؛ والسبب في عدم إباحة العكس عدّة أمور؛ إذ:

عِلّة تحريم الربا قَطعاً تتحقق فهو قَدَر متيقَّن من المانعيّة والحرمة وإن لم يَكُن هنالك تَحقُّق لهكذا معامَلات في زمن التشريع؛ إذ الانصراف المذكور أعلاه لا يَشمل هذا المقدار بَعد شمول نفْس علّة التحريم له ودخوله تحت القَدَر المتيقَّن من المَنْع؛ فتَثْبُت له الحُرمة من أول الأمر على نحو القضية الحقيقة المنطبقة على مَصاديقها وخِلاف المَصلحة حيث الضرر على المواطنين عموماً والمسْلِمين خصوصاً والحال أن وجود الدولة إنما دائماً ظِلُّ وجود الأفراد لا العكس هو دائماً، بل و- مع غَضِّ النظر عن عدم تَحقُّق الرضا ولو من البعض.. - لا يَصْدُقُ معه صالح الدولة لصالح المسْلِمين فتُراث الدولة لا ينمَى بضرر جماعة من الناس وهم المستثمِرون وعوْدتِه على عُموم المسْلِمين، وإذا فَرَضْنا الجميع مستثمِر فأيضاً لا يمْكِن؛ إذ رؤوس أموالهم متفاوتة والمفترَض أن المَصلحة تعود للعموم ولو بنحو متقارب، وإذا فَرَضْنا تَساوي رؤوس الأموال بحيث حَدَّدتِ الدولة للمشاركين رؤوس أموال مُعَيَّنة؛ فنفس النتيجة؛ إذ العائد العام حسب الفرض يعود على العموم لا خصوص المستثمِرين، وإذا فَرَضْنا أن جميع الشعب ساهَم وبرؤوس أموال متساوية؛ فهو مع كونه فرضاً أَشْبَه بالمستحيل والخيال كذلك فيه من الصَّرْف لأموالهم فيما لا يقرّونه بحيث في هذا الفرض - وكذا في سوابقه - لا يَصْدُق معه صَرْف المال في صالحهم؛ إذ صالح الفرد ومَصرف ماله الخاص يحدده كل فرد بنفسه فهو حسب الفرض مالُه والقاعدة لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ إلا عن طِيْب نفْسه.. فضلاً عما إذا أساساً أَخَذْنا عدم الرضا من بعض الأفراد في أصل إنشاء العقد لا فقط في عودة ماله بحيث قام بذلك من باب الاضطرار والعُسر فنَدخل مضافاً لذلك في عدم الرضا الذي هو رُكن في صحة العقد والدخول في المختلط بالحرام..؛ فإنّ الربا بين الوالد وولده، وبين الزوجين، مباح من الطرفين كونهما مع التراضي من هذه الناحية في قوّة الشيء الواحد على وِزان أنت ومالُك لأبيك.. وكذا عدم تحقُّق العُسْر والاختلال والاضطرار البَليغ من جهة الدولة المشار إليه أعلاه.

2. أن يَكون ذلك في حدود توعوية ونظامية قادرة على المَنْع من الوقوع في المَفاسد من قبيل عدم إمكان ضبطه ومن ثم تَسَرُّبه وشياعه بين الناس فيما عَداه من وجوه الربا المحرَّمة بنصِّ الكتاب والسُّنة؛ فإنّ مَفاسد وجوه الربا المحرَّمة المادية والمعنوية على الشعب والدولة معاً عظيمة خطيرة جداً فلا هَوادة فيها حتى ورد النهي عن وجوهه المحرَّمة في كثير من الآيات والروايات منها قوله تعالى:

﴿وأَخْذِهِمُ الرِّبا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ وأَكْلِهِم أموالَ النَّاسِ بالباطِل، و﴿الَّذِينَ يَأكُلونَ الرِّبا لا يَقُوْمونَ إلا كَمَا يَقومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطانُ مِنَ المَسِّ، و﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا، ﴿وما آتَيتُم مِن رِّباً لِيَرْبُوَ في أموالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللهِ وما آتَيْتُم مِن زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُون...

3. أن لا يَكون رأس مال البنك أو المؤسَّسة مشتركاً بين القطاعين العام والخاص، وإلا كان من متيقَّن المختلط بالحرام، وما يَدور مَداره من المَفاسد الصريحة الواضحة التي على أساسها أحلّ الله البيع وحرَّم الله الربا.

فزبدة الاستثناء أن يكون في حدود الاستثمار بين الدولة والمُواطِن - مطْلَق الدولة ولو ليست مسْلِمة؛ لدليل خروج معامَلة الكافر عن الربا كما ستأتي ضابطته بعد قليل من جهة، ومن أخرى لعموم المَناط المشار إليه فيما سبق - وفيما يَكون رَيْعُه للمواطن والدولة مشاركةً أو للمواطن وحده لا للدولة فحسب؛ تماماً كعدم الربا بين المسْلِم والكافر إذا كان آخِذ الزيادة هو المسْلِم، عَدا الكافر الذِّمّي - وهو صِنْفٌ حالياً غير موجود - وهو الذي يُقِيْم عَقدَ الذِّمّة مع ولي المسْلِمين فيَحرم الربا معه حتى لو كان آخذ الزيادة المسلم..

▪︎ وعلى ضابطة هذا الأخير يمْكِن للدولة أيضاً إنشاء بنوك أو عقود ومَراكز سُوقية خاصة للمعامَلات مع غير المسلمين وتمرير ما يعاق لدى الدولة من السِّلَع والماليات من قبيل بيع الذهب المَصوغ قبال غير المَصوغ بزيادة...، وجلب الاستثمارات الأجنبية وتمرير المعاملات والقروض البنكية الربوية لفئة سيّما داخل الدول المسْلِمة التي ينتمي إليها أو يَفِدُها أقوام من غير المسلمين فإنها أيضاً من حوافز الإسلام للكفار. هذا مَبْلَغ رأيي أنا الحقير، ومن لديه نقاش فيَمتَن به علَيَّ مشكوراً.

ماجستير فقه ومعارف إسلامية وفلسفة ، مؤلِّف ومحقِّق وأستاذ حوزوي.
- موقع السيد أمين: www.anbyaa.com