المعرفة المغيبة في نقد الشافعي لمحاضرة السيد المنير
كالعادة مازالت محاضرات آية الله السيد منير الخباز تتصدر المشهد الثقافي العاشورائي لما تتميز به من جدة في الموضوعات ومواكبة للأسئلة والإشكاليات المعاصرة والإجابة عليها بأسلوب علمي معرفي وفلسفي
وهذا العام 1442 هـ ومن خلال التراث العلوي تمركزت المحاضرات حول «النظام الإسلامي ككل واحد من نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي وتربوي» ومقارنته للأنظمة الوضعية الغربية مما أثار بعض المثقفين كالكاتب محمد الشافعي وتحت عنوان «ملاحظات نقدية.. السيد منير الخباز ومفهوم دولة الأمة والدولة الحديثة»
أظهر تعجبه من هذه المحاضرة بقوله: «استمعت إلى محاضرة سيد منير عن دولة الأمة في الخلافة العلوية التي ألقاها هذا الموسم وفوجئت بالطرح المتعجل الذي قدمه السيد في هذا الموضوع ويبدو أن موضوع عقد المقارنات بين نماذج دينية معيارية من التراث ونماذج حديثة هو الدافع وراء التنظير المختزل الذي نراه على بعض المنابر في المواسم الأخيرة» ثم يتوصل إلى ما أسماه ”الإشكال الأكبر“ «لكن يبقى الإشكال الأكبر في مقارنة السيد الخباز هو عقد المقارنة لغرض تفضيل الصورة المعيارية بتوظيف مناقبية النبي والإمام ومحاولة تعميم وظائف دولتهم على الكيان الحديث الذي يعبر عن اجتماع سياسي وهيئة قانونية حديثة لها وظائف وأركان مختلفة»
قبل تفكيك هذا المقطع - مع سطحيته - الذي يشكل محورية المقال وبالتالي سيتم معالجته معرفيا أستشهد بنص - يكون مدخلا في تحليله - من رواية فلسفية رائعة بعنوان «عالم صوفي» لـ جوستاين غاردر
وذلك في حديثه عن المراحل المعرفية لديكارت يقول غاردر: «تنطلق فلسفة ديكارت العقلانية من الأكثر بساطة لتصل إلى الأكثر تعقيدا مركزا على دور الحدس وهو حس ذهن نقي ويقظ يسمح بالتقاط الفكرة في حال نقائها وفي كل مرحلة يجب التأكد والضبط بحيث لانترك شيئا يفلت من يقظة الفكر وهكذا نصبح قادرين على الخلوص باستنتاج فلسفي، كأنك تتحدث عن تمرين حسابي!...
- بعد ذلك تساءل ديكارت عما إذا كان يدرك أشياء أخرى بالحتمية الحدسية ذاتها التي أدرك بها كونه كائنا مفكراً وكان يعي بوضوح كامل وجود كائن كامل، فكرة فرضت نفسها عليه باستمرار مما جعله يستنج أنها لا يمكن أن تأتي من تلقاء نفسها ”إن فكرة الكمال هذه لا يمكن أن تأتي إلا من كائن كامل أي الله“ فوجود الله بالنسبة لديكارت حقيقة مباشرة كحقيقة وجود مخلوق مفكر
_ أرى أنه بدأ يخرج باستنتاجات متسرعة فقد كان أكثر حذرا في البداية» انتهى النص
هذا الموقف السلبي من غاردر تجاه موقف ديكارت المعرفي الموصل إلى معرفة مبدأ الوجود هو «الله»، [*] يعبر عن أزمة ومشكلة معرفية لدى المذهب المادي ويجعله في خانة الأدلجة؛ في الوقت الذي يدعي فيه محاربته الأدلجة، الوضع نفسه هنا فالكاتب الشافعي من خلال هذا المقطع ومقاطع أخرى ”ولأسباب موضوعية اضطر النبي إلى الهجرة لإنجاح دعوته هناك من خلال المواثيق والتفاهمات والتحالفات وترتيب الكيان الجديد وقفا لذلك كله هذا في تصورهم من جوهر الدين“ نجد حساسية مفرطة لدى الكاتب تجاه كل ما هو ديني وكأنه يتبنى رؤية علمانية في فصل الدين عن الدولة وبالتالي:
لا يوجد عنده نقطة التقاء بين الدين والدولة، مع أن الدولة:
أ - تكون قائمة استجابة للضرورة الناشئة عن طبيعة الاجتماع البشري بصورة سابقة على الصورة المقدسة ومن دونها
ب - ثم تتبنى الرسالة أو تغزوها الرسالة وتفرض نفسها عليها ويمكن أن تتخلى الدولة عن الرسالة المقدسة إلى رسالة أخرى أو إلى لا شيء وهذا ما ينطبق على جميع صيغ الدولة المعروفة في التاريخ
وهكذا حال الدولة الغربية الحديثة التي تخلت عن المسيحية إلى العلمانية وإلى اللبرالية، والمجتمع الإسلامي بالنسبة إلى مشروع الدولة الإسلامية من هذا القبيل فليس المطلوب في المجتمع - مع الإمكان - مجرد إنشاء دولة وحكومة كيف ما اتفق استجابة لضرورة الاجتماع البشري فقط، وهو أمر مطلوب على كل حال وكل ما كان ذلك ممكنا، وإنما هو إنشاء دولة وحكومة تحقق رسالة الإسلام الحضارية الإنسانية...» في الاجتماع السياسي ص63 الشيخ محمد مهدي شمس الدين
فالدولة إذاً تمر بمرحلتين أساسيتين:
أ - مرحلة الكينونة الضرورية للاجتماع البشري
ب - مرحلة الصيرورة والنظام القائم على العقد الاجتماعي
ومن هنا ارتبط مفهوم الدولة بالمجتمع
«المجتمع المدني هو المجتمع السياسي في تتطابق عند هوبز، فلا فارق بينهم إلا أننا نلمح شيئا من الفصل في حكومة الأغلبية المقيدة عند لوك ولكنها حكومة لا تقوم إلا بعقد الأغلبية وفي تحقق العقد يكونوا قيام المجتمع المدني ومن ثم قيام الحكومة وهو الأمر الذي يعيبه هيجل على فلاسفة العقد ويؤكد على الفصل بين الدولة السياسية والمجتمع المدني ولكن لدى فلاسفة العقد رأي هو في الواقع رأي يجله الفرد المتعطش للحرية» المجتمع المدني عند هوبز لوك ص 29د فريال حسن خليفة
إذاً آلية بناء المجتمع السياسي هي العقد أو الاتفاق عند هوبز ولوك وايضاً من بعدهم جان جاك روسو الذي اشتهر بها من خلال كتابه العقد الاجتماعي
ومن خلال مفهوم الحرية وسلطة إلا نسان على نفسه وقع خلاف في سعة تلك الحرية وقيدها والطريقة الوحيدة لرفع تلك المشكلة هو العقد الاجتماعي
فلوك يقول «فالاتفاق هو الطريقة الوحيدة التي يسلب بها الفرد من حريته الطبيعية ويدخل في التزامات المجتمع المدني في اتفاقه مع البشر الآخرين، وهم بذلك يتعاونون على خلق جسم سياسي واحد والأغلبية الحق في أن تفعل» المصدر السابق
وفي الضفة الأخرى يحدد هوبز القصد من التنازل فيقول ”عندما يتنازل الفرد عن حقه لفرد آخر بقصد المنفعة لشخص أو أشخاص أو على أي نحو تنازل الفرد عن حقه هو يقول:“ هو ملزم وملتزم أن لا يمنع من تنازل إليه عن حقه من منفعة الحق وإن هذا واجبه أن لا يفعل ما يبطل فعله هذا فأي مانع كهذا هو ظلم وأذى " المصدر السابق
وهكذا نجد أنفسنا أمام إشكالية كبرى في الفكر الغربي عند فلاسفة العقد في تحقيق كامل الحرية دون سلبها - وهو مطلب - مع وجود الأنا البشرية التي لا ترى إلا مصالحها الذاتية وما أزمة كورونا الأخيرة إلا شاهد صارخ على أنانية الأنظمة الغربية في تقديم مصالحها الذاتية على مصلحة الإنسان في الوقت الذي ترفع فيه شعار «الإنسان» أولاً وأخيراً وأماتت الإله، وإذا بها تميت الإنسان من أجل رأس المال!!!
لحل هذه الإشكالية يقول المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر: «وهنا يجيء دور الدين بوصفه الحل الوحيد للمشكلة، فإن الدين هو الإطار الوحيد الذي يمكن للمسألة الاجتماعية أن تجد ضمنه حلها الصحيح»
ذلك أن الحل يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة هذا التوفيق هو الذي يستطيع أن يقدمه الدين للإنسانية لأن الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة أملا في النعيم الدائم وتسطيع أن تخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه ومفهوما عن الربح والخسارة أرفع من مفاهيمهما التجارية المادية
وفي القرآن الكريم نجد التأكيدات الرائعة في كل مكان وهي تستهدف جميعا تكوين تلك النظرة الجديدة عند الفرد عن مصالحه وأرباحه» اقتصادنا ص 325 ثم يقول: «فللفطرة الإنسانية إذا جانبان: فهي من ناحية تملي على الإنسان دوافعه الذاتية التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية الكبرى في حياة الإنسان ”مشكلة التناقض بين تلك الدوافع والمصالح الحقيقية العامة للمجتمع الإنساني“ وهي من ناحية أخرى تزود الإنسان بإمكانية حل المشكلة عن طريق الميل الطبيعي إلى التدين وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية» 327
ونسجل هنا حقيقة هامة جداً وهي أن تشريع الدولة والنظام والحكومة ليس جزءاً من التشريع الإسلامي انضم إلى أجزاء أخرى وإنما هو بالإضافة إلى ذلك نتيجة طبيعية وضرورية للعقيدة والشريعة...
ضرورة الحكم في المجتمع جزء من ضرورة كونية عامة فالكون كله محكوم بنظام ثابت وهادف...
وأن هذا النظام المحكم وهذا الهدف الحكيم هما اللذان عبر الله تعالى عنهما بالحق في آيات كثيرة
قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ”وقوله تعالى“ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾
يقول جورج جرداق في كتابه الإمام علي صوت العدالة الإنسانية «ألقى ابن أبي طالب تلك النظرة على الكون فوعى وعيا مباشراً ما في نواميسه من صدق وثبات وعدل فهزه ما رأى وما وعى وجرى في دمه ومشى في كيانه واصطخب فيه إحساساً وفكراً فتحركت شفتاه تقولان: ”ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض“
ولو حاولت أن تجمع الصدق والثبات والعدل في كلمة واحدة لما وجدت لفظة تحويها جميعا غير لفظة ”الحق“ ذلك لما يتحد في مدلولها من جوهر الكلمات الثلاث
وأدرك ابن أبي طالب في أعماقه أن المقايسة تصح أصلا وفرعا بين السماء والأرض اللتين قامتا بالحق واستوتا بوجوهه المتلازمة الثلاث؛ الصدق والثبوت والعدل، وبين الدولة التي لابد لها أن تكون صورة مصغرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة...
ثم لا يلبث أن يقول ”وأعظم ما افترض من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها الله لكل على كل فجعلها نظاماً لألفتهم فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة“
ثم يقول جروج جرداق
«وأوصيك خيراً بهذا الإحكام للروابط العامة الكبرى بين عناصر الدولة على لسان علي بن أبي طالب ثم بين الأعمال الخيرة المنتجة وبين ثبوت هذه العناصر على أسس من الحق»
ووجوه الحق الثلاثة التي تقوم بها السماوات والأرض، ووجود المظلوم والظالم في المجتمع مفسدة له ومنقصة له في موازين - العدالة الاجتماعية - التي لا تستقيم إلا إذا دخلت في نطاق مريح من العدالة الكونية، والبطل لا يمكنه أن يكون قاعدة بل الحق هو القاعدة و”الحق لا يبطله شيء“ في قانون الكون وهو كذلك في مذهب ابن أبي طالب»، ص406 إلى 409 عنوان بين علي والثورة الفرنسية
وبهذا نصل إلى أن استغراب الكاتب ناتج عن نقص في البنية المعرفية للنظام الإسلامي وما تلك المقارنة إلا كما يقول عميد المنبر الحسيني الدكتور الشيخ الوائلي: «والواقع أني لا أريد مقارنة الشريعة بالقوانين الوضعية فإنه لا نسبة هناك بين ما يشرعه الباري تبارك وتعالى بماله من عظمة وحكمة ينحسر عنها الفكر ويعيا اللسان وبين ما يشرعه مخلوق يعتوره النقص في كل جهاته ويتسم بالمحدودية في كل أبعاده ومجالاته» أحكام السجون ص160