آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:42 م

السياسة السائلة.. من نخبوية الممارسة إلى شعبويتها

محمد الحرز * صحيفة اليوم

بالطبع لا يمت ما أعنيه بالسياسة السائلة، لا من قريب أو بعيد، بمصطلح آخر، هو الحداثة السائلة الذي اشتهر به عالم الاجتماع البولندي زيجمونت بومان، فالسيولة المرتبطة بالحداثة تقابلها عنده بالصلابة. وكأنه يعني فيما يعنيه أن الحداثة في بداية تشكلها قد عبرت بالإنسان بقيمه الاجتماعية والاقتصادية والدينية ومجالات حياته الأخرى، على العموم، من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة، من اليقين والإيمان المطلق بالعلم والتقدم والعقلانية إلى اللايقين والنسبي واللعب والعشوائية، من التنظيم العقلاني الصارم إلى الاستهلاك العبثي.

وهو إذ يتناول المسارات المتعددة لهذا التحول، ينصب تركيزه على البعد السيسيولوجي للحداثة.

لكن ما أعنيه هنا بالدرجة الأولى، بهذا المصطلح، يمكن تمثيله مجازا بالكأس حين يفيض منه الماء بعد امتلائه، فيبدأ بالتدفق والتمدد دون وجهة معينة، يتخذها مساره، خصوصا إذا كان تدفقه قويا وسريعا، بحيث تصعب السيطرة عليه بطريقة سهلة وسريعة، أو التنبؤ بمآلات وجهته على التحديد، لأن الفوضى كامنة في صميم حركته.

بهذا المعنى المجازي الذي أراه نوعا ما يقرب الفكرة للأذهان. لكنه لا يطابقها تماما، أود الدخول للموضوع.

قبل زمن التواصل الاجتماعي، وبالخصوص تويتر الذي أصبح منصة رأي عام مؤثر بالدرجة الأولى، في حياة السعوديين الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأصبح من خلالها كذلك، كل ما يخص الشأن اليومي في حياة الناس معروضا ومتاحا، بشتى الطرق والوسائل السمعية والبصرية التي تتدفق دون مصدات أو مكابح أو فرز بين ما هو تافه وسطحي، من المعلومات أو بين ما هو مهم وثمين وقيم.

قبل هذا الزمن لم يكن الكأس يفيض بقضايا الشأن العام التي تمس حياة الناس في مختلف مجالاتها، سواء كانت في الشأن السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي والديني. كانت الحدود واضحة في أي مسألة من المسائل، والمساحة التي كانت تضم هذه الحدود كانت معروفة وواضحة كالصحف والمنابر والقنوات المرئية الرسمية أو ضمن فضاء مجلس الشورى وصلاحياته. قد تتقدم مسألة على أخرى، في أي شأن من الشؤون، وتتصدر الاهتمام العام لأي سبب من الأسباب. لكن بالمحصلة لا تتدفق خارج الكأس، وتظل في الحدود المتاحة لها.

فالقضايا المتعلقة بالرياضة على سبيل المثال، وبحكم الطبيعة الجماهيرية الانفعالية التي تدار بها هذه القضايا، وما يترتب عليها من شد وجذب، ومناوشات وجدل واصطفاف لا عقلاني إلى هذا الفريق أو ذاك، فإنها سرعان ما تغلي ويصل بها الغليان إلى حواف الكأس. لكنها بالنهاية تظل في حدوده.

وعلى هذا فقس مختلف القضايا في مجالات حياة الناس الأخرى، وليس اختيارنا لقضايا الرياضة كمثال إلا كونها الأكثر وضوحا في العقود الماضية، قبل مجيء زمن التواصل الاجتماعي، والأمثلة عديدة وجلية للقارئ، فلا داعي لذكرها.

والآن ما الذي تغير في زمن منصة تويتر؟!

أول تغير جوهري هو انتفاء الحدود بين القضايا التي تتصل بحياة الإنسان في جوانبها المتعددة، فالديني يتداخل مع السياسي، وهذا الأخير مع الرياضي وهذا بدوره مع الفكري والأدبي. ومعنى التداخل هنا هو ضياع هوية القضايا وتشتتها بين من يتحدث بالشأن السياسي وهو ذو خلفية رياضية احترافية، ومن يتحدث بالشأن السياسي وهو ذو خلفية أدبية احترافية، ومن يتحدث أيضا بالشأن السياسي وهو ذو خلفية دينية وعظية.

ولا غرابة أن تكون القضايا السياسية هي الواجهة التي يختبئ خلفها كل هؤلاء، لسبب بسيط: منطقتنا تغلي بالانقسام السياسي والخلاف الحاد، الذي لم يتوقف عند النخب السياسية كما كان في زمن ما قبل تويتر، وإنما تجاوزه إلى عامة الناس حتى فاض عن الكأس وبدأ يتدفق في جميع الاتجاهات.