آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

لقد شُبّه لهم‎

سعيد الميداني

مُذْ كُنت صَبياً صغيراً ومع بزوغ هلال أول محرم بالكاد مخيلتي الصغيرة تستنطق ما يدور حولها من رسومات وعبارات معلّقة على جدران بيوتات وأزقة حارتنا.. امتزجت معاني وتعابير تلك الصور برائحة سعف وجذوع النخيل الذي يحترق تحت أواني الطبخ، وأخذني ذلك المشهد إلى ألسنة النيران المستعرة وهي تنهش برواق المخيمات فتتهاوى أعمدتها ويتفاررن من بداخلها.. هذا الصخب من التفاصيل حفرته حنجرة الملاّ عبد الحميد المبحوحة بينما أنا متسمّر بحسرتي خارج الحسينية أتلصص واختلس مايوصف عن تلك المصيبة المفجعة والتي من هولها أخذت مطارق الحزن تدك جمجمة أفكاري، وقتها ارتسم بذهني البريء والغضّ كل مفارقات الحكاية وتضادها وهي تصوّر حال ذلك الرجل المسمى بالحسين الذي بقي على صهوة حصانه يوزع نظرات الحيرة؛ يحوقل تارة ويتفقّد بطرف عينيه أفراد عائلته وأصحابه تارة أخرى في ظهيرة ذلك اليوم المشمس وهم جثث غارقين في بركة من الدماء الحمراء.. وقف كالأسد الأشم الذي لا يستسلم بسهولة وهو يرى الجراد المنتشر يطوّق غربته اليتيمة ووحدته المهشّمة.. الخطيب وهو يروي جريمة ذلك العصر كأنه فارس يقاتل بضراوة أخذ يفضح أفراد العصابة وأماط اللثام عن وجه كل واحد منهم، فيتسرّب في الأثناء ذبذبات دغدغت مشاعر الخوف في أطراف جسمي وأنا أرى الخطيب يصرخ ويثور والحضور يتفاعل معه بالصراخ خصوصاً كبار السن الذين يجدون في هذا الأسلوب متعتهم فهو يطفّيء حرارة قلوبهم المثكولة.

بعد ليلة ساخنة يترجّل الخطيب من منبره وينفضّ المستمعين قاصدين مجلس آخر يحتسون منه خمرة العشق والولاء الذي لا ينضب؛ ولكنني كولد صغير لا تذهب آثار الحكاية من رأسي فرأسي متخم بجبل من الأسئلة والتساؤلات فموت الحسين يتكرر من مجلس لآخر وهذا لا يرضي طفولتنا البريئة لأن ذلك يختلف كثيراً عن ما نشاهده في الأفلام فالبطل في منظورنا السينمائي هو من يقلب المعادلة بوجه أعداءه ويبقى حياً ليعود الى حبيبته في نهاية الفيلم! فلماذا يموت الحسين في هذه الحكاية وهو البطل المسدد من السماء؛ وهذا ما آرق فراشي في رحى تلك الليلة المشؤومة وهي تطحن رأسي بالكثير من الأسئلة؛ حتى اقتحمت عليّ أمي غرفتي كعادتها المسائية لتغطيني باللحاف فتفاجأت إنني لم أنم فسألتني: ممّ السهر يا ولدي هل تشكو من ألم؟ فأجبتها لا يا أمي ولكن كلام الملاّ أزعجني! قالت: وماذا قال الملاّ؟ قلت لها أنهى روايته بسقوط الامام الحسين ممزّق الأوصال محزوز الرأس ممدداً تطأه الخيول بحوافرها؛ وقد تمنيت أن يعيش وتسعد عائلته بعودته منتصراً مثل كل أبطال الأفلام التي نشاهدها؛ أجابتني: هو بالفعل بطل لم يمت؛ لقد شبّه لهم فهو عند الله وسوف يعود في زمن آخر لينتقم ممن ظلمه وظلم أهل بيته؛ نمّ يا ولدي وانتظر ذلك اليوم حتى تكون من أعوانه وجنوده لتنشروا الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً، بعد إجابة أمي فرحت إن الامام الحسين خالد لم يمت وأغمضت جفني وأنا أحلم باليوم الموعود.