الشيخ الصفار وصناعة الرؤية
يتحرك الشيخ حسن الصفار بخطابه التنويري، ضمن سعيه إلى الإصلاح، متسلحاً برؤية إسلامية واعية، فيوجه خطابه في الغالب إلى جمهور الأمة كافة، لكنه يخصص بعض خطاباته إلى الجمهور الشيعي، لمعالجة إشكالية محددة.
فمن الطبيعي أن تكون للفئات الدينية أو العرقية قضاياها الخاصة، التي تحتاج إلى تنظير ومعالجة، وهي مسألة مطروحة على مستوى العالم، تطفو تداعياتها على السطح بشكل يومي.
وكما يحتاج المجتمع إلى العلم والمعرفة، كذلك هو بحاجة إلى من يستنهض فيه روح المبادرة والسعي إلى بناء المؤسسات الخيرية والثقافية، وأهم من ذلك كله يحتاج المجتمع إلى صناعة الرؤية، التي تعرفه موقعه ومكانته وإلى أين ينبغي أن يتجه.
صناعة الرؤية مهمة استراتيجية تتطلب إحاطة بالواقع وقراءة دقيقة للظروف وحكمة تتسلح بالشجاعة وتبتعد عن المبالغة والتهور.
أقول إنها مهمة استراتيجية، لأن المجتمع إذا فقد الرؤية الواضحة أضاع بوصلة اتجاهه، بما يؤدي إلى الانكفاء أمام الضغوط، أو المواجهة غير الحكيمة، أو الوقوع في أزمات الخصومات الداخلية.
وقد أحسن الشيخ الصفار وأجاد في رسالته التي وجهها إلى المجتمع الشيعي، في الليلة الأولى من محرم هذه السنة1442 هـ ، وعنونها ب «القلق على الهُويّة»
وجعل حديثه ضمن محورين:
الأول: تنوع الهُوِيّات وتأثيراتها الاجتماعية.
الثاني: تعزيز الهُوِيّة في مدرسة أهل البيت .
من خلال المحور الأول عالج مسألة ثقافية نفسية، تعيشها الأقليات في العالم، وهي حالة الضبابية في المشاعر بين دوائر الانتماء المتعددة، وأيها ينبغي أن تكون حاضرة في تفكير المواطن وعاطفته!
الشيعي الموجود في المملكة العربية السعودية ينتمي إلى وطن مترامي الأطراف متعدد المذاهب، في إطار الدين الإسلامي والأمة الواحدة، وهذا التعدد في دوائر الانتماء لا يعني التضاد أو التنافر.
حيث قال سماحته «يفترض في الحالة السوية أن لا يكون هنالك تضاد بين دوائر الهُويات، نعم أنا دينيًا مسلم، مذهبيًا شيعي، وطنيًا سعودي، هذه دوائر مختلفة، ليس هنالك تضاد بين كوني مسلماً وعربياً وشيعياً»
فشعور الإنسان واعتزازه بمذهبه ينبغي أن يتأكد في نفسه، دون أن يعني الخروج عن دوائر الانتماء إلى الوطن والمواطنين المختلفين معه في المذهب، المتفقين معه في الدين.
ومن خلال الاهتمام بالهوية الخاصة تبرز عدة فوائد وآثار إيجابية، أجملها الشيخ الصفار في الأمور التالية:
1/تبعث الثقة والشعور بالذات في نفوس أبناء المجتمع.
2/تحفز المجتمع لمواجهة التحديات.
3/تعزز التماسك والتلاحم الداخلي.
أما في المحور الثاني من محاضرته القيمة، فقد وضع خارطة الطريق لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الشيعي، وهي رسالة صريحة واضحة تستحق التداول والنشر بحيث تصل إلى جميع الشيعة، وخصوصاً الشباب.
ولأن الشيخ الصفار يتميز بالتأصيل الفكري لآرائه وأطروحاته، فقد عالج هذه المسألة الشائكة بعيداً عن الشحن الطائفي، وذلك بالرجوع إلى سيرة أئمة أهل البيت وتوجيهاتهم للشيعة ضمن تلك الظروف العصيبة التي مروا بها، فحدد خطوات تعزيز الهُوِيّة مع الانسجام الوطني في الأمور التالية:
أولا: تأكيد الثقة والثبات على خط الولاية لأهل البيت .
ثانيا: الوعي وصدق الالتزام بالهُويّة.
ثالثاً: الانشغال ببناء الذات وتفجير الكفاءات والإنتاج العلمي والكمال الأخلاقي.
رابعاً: الإدارة المبدئية العقلانية لمعركة الدفاع عن الهُويّة.
خامساً: التحذير من الأخطار الداخلية على الهُويّة.
نعم.. إن الانتماء إلى مذهب أهل البيت هو الخط الأصيل في الإسلام، وعلى الفرد الشيعي أن يعتز بانتمائه المذهبي.
لقد أكد الشيخ الصفار هذه المسألة بصورة جلية واضحة، مستدلاً بعدة روايات، منها ما جاء عن أبي بصير عن أبي جعفر أنه قال: ليهنئكم الاسم قلت: وما هو جعلت فداك؟
قال الشيعة.
قيل: إن النّاس يعيروننا بذلك.
قال: أ ما تسمع قول الله: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ»
وقوله: «فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ» فليهنئكم الاسم.
فالشيع لأهل أرفع وسام يتقلده الشيعي، لكن ذلك يحتاج إلى وعي وصدق التزام، فلا يكفي الادعاء، وهو ما أكد عليه سماحته، وأضاف إليه ضرورة الانشغال ببناء الذات وتفجير الكفاءات والإنتاج العلمي والكمال الأخلاقي.
وعلى صعيد العلاقة مع المحيط والتعاطي مع الضغوط والاستفزازات التي يمكن أن تحصل على الأقليات المذهبية، أكد أن أئمة أهل البيت منعوا شيعتهم من الاستجابة لحالة الانفعال، ودعوا إلى التزام الحكمة والتعقل، والاهتمام بالمصلحة العامة للأمة الإسلامية، كما روي عن أمير المؤمنين «لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة»
وهي رسالة واضحة لشيعة اليوم أن يتحلوا بالحكمة وضبط الانفعالات، وتقديم النموذج الأمثل لأتباع أهل البيت .
وختم سماحته توصياته للشيعة بضرورة السعي لتحقيق التماسك الداخلي، والقبول باختلاف الآراء والاجتهادات المتعددة، وحذر من التطرف والغلو في أئمة أهل البيت ،
وهي مسألة يتحاشى الخوض فيها كثير من العلماء، لما تستبطنه من نقد يؤكد وجود روايات وآراء لا يرضاها أهل البيت .
إن الإخلاص للمذهب والدفاع عنه يستوجب شجاعة السعي لتنقيته مما شابه من المنحرفين والغلاة، وهو ما صرح به أئمة أهل البيت في أزمنتهم.
عن الإمام الصادق «اِحذَرُوا على شَبابِكُمُ الغُلاةَ لا يُفسِدُونَهُم؛ فإنَّ الغُلاةَ شَرُّ خَلقِ الله»
وعنه «إنّا أهلُ بَيتٍ صادِقونَ، لا نَخلو مِن كَذّابٍ يَكذِبُ عَلَينا فَيُسقِطُ صِدقَنا بِكَذِبِهِ عَلَينا عِندَ النّاسِ»
وهنا أود التأكيد على ضرورة مناقشة هذه الرؤية التي طرحها سماحة الشيخ الصفار، ضمن المنتديات والندوات الثقافية، في جو من الحوار الهادئ، حتى تأخذ حظها من التبلور، وتتحول إلى برنامج عملي في تثقيف الجيل الشاب وتربيته.