آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:20 ص

الاختلاف في فهم ثورة كربلاء.

علي محمد عساكر *

في القرآن الكريم آية ربانية عظيمة في بيان مستوى العقول واختلافها بين الناس، ومدى انعكاس ذلك على الفهم والاستيعاب والاستفادة من أحداث الحياة، يقول الحق سبحانه وتعالى فيها: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا

والسماء هي «جهة العلو» والوادي هو «سهل الجبل المنخفض» ومعنى الآية الكريمة باختصار هو: أن الله عز وجل أنزل من السماء ماء، هي الأمطار التي سقطت على رؤوس الجبال، ثم انحدرت إلى السفح والوادي الذي هو أسفل الجبال، فسالت تلك الأودية، وحمل كل واد منها من الماء بقدره من الكبر والصغر والضيق والسعة، فكل واد أخذ من تلك الأمطار بقدره واستيعابه.

وفي هذه الآية الكريمة يشبّه الله عز وجل نزول القرآن الكريم بالماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، وذلك لما في القرآن من كنوز ثمينة، ومعارف عظيمة، وحقائق جليلة فيها حياة للناس وشفاء لما في الصدور، كما يشبّه سبحانه وتعالى العقول والقلوب بالأودية والأنهار في مدى استفادتها من القرآن الكريم، فمن كان يملك ثقافة واسعة، وعلما كثيرا، وعقلا راجحا، وفكرا ناضجا، ووظف ذلك كله في التمعن والتفكر والتدبر في القرآن الكريم ودراسة آياته البينات، خرج منه مثقلا بالعلوم النافعة، والمعارف المفيدة، وجني منه الخير الكثير والفوائد الجمة، تماما كالبحار الكبيرة التي تحوي وتستوعب الماء الكثير، ومن لا يملك شيئا من الثقافة، ولا حظ له من العلم، وعقله بليد، وفكره بسيط، وإدراكه جدا محدود، أو لم يحاول أن يتعمق في فهم القرآن واستيعابه كما يجب، كان حظه منه قليلا، وفائدته محدودة، تماما كالنهر الصغير، أو الوادي الأصغر، الذي لا يستوعب من الماء إلا القليل.

وهذا ليس مختصا بالقرآن الكريم، بل هو يمتد ليشمل كل أحداث الحياة، وكيفية تعاملنا معها، ومدى استفادتنا منها، وارتباط ذلك كله بما نملكه من علم وثقافة، وخبرة وتجربة، ووعي وفطنة، وعقل وإدراك.

فما العقول البشرية - في الحقيقة والواقع - إلا أودية مختلفة العمق والمساحات، وكل عقل يأخذ من العلم والمعرفة والثقافة... بقدر وعيه وفهمه واستيعابه، وهذا من بين أسباب اختلاف العقول في فهم سائر القضايا ومختلف الأحداث، وشتى المواضيع.

ففي كل يوم بل في كل لحظة تحدث في هذه الحياة الكثير من الأحداث الضخمة والكبيرة، والتي تنعكس آثارها على المجتمعات البشرية سلبا وإيجابا، كما أنها قد تصل من الأهمية والأثر إلى حد أنها تغير مسار الحياة.

وتقييم هذه الأحداث وتحليلها هو أيضا يختلف من إنسان إلى آخر، فيكثر الجدل والاختلاف في التقييم والتحليل، وتنشأ عن ذلك صراعات فكرية ومجادلات عقلية كبيرة، قد تصل إلى حد أن تريك التناقض بأوضح صوره بين هذه التحليلات المتضاربة المتناقضة.

كما أن الاستفادة أيضا من تلك الأحداث متفاوتة من إنسان إلى آخر، فهذا يخرج منها بدروس كبيرة جدا يستفيد منها في حياته على جميع الأصعدة والمستويات، والآخر تكون استفادته منها جدا بسيطة ومحدودة، وربما لم يستفد منها شيئا، هذا إن لم يفهمها فهما خاطئا، وتعامل معها تعاملا سيئا، جعله يتضرر منها تضررا كبيرا.

وكل هذا ما هو إلا بسبب اختلاف المستوى العقلي والفكري بين الناس، الذين يختلفون في مستوى الوعي والفهم والإدراك عن بعضهم البعض، كما أن لكل واحد منهم معطياته الفكرية وخلفيته الثقافية المختلفة عن الآخرين، والتي لها انعكاساتها المباشرة عليه في كل شؤون حياته.

فكل قضية إنما نحن نأخذ منها بقدر ما نملك من علم وعقل، فأصحاب العلوم الغزيرة والعقول الكبيرة يأخذون ويفهمون ويستفيدون من القضية الواحدة، أضعاف ما يأخذه ويفهمه ويستوعبه أصحاب العلم القليل، والإدراك المحدود، والعقول الصغيرة.

وثورة الإمام الحسين ثورة ضخمة وعظيمة إلى أبعد حدود الضخامة والعظمة، بل لا توجد هناك ثورة أعظم وأضخم منها في التاريخ، كما أن عطاءها غني وثري وكبير وكثير ومتنوع... ولا يكاد يقف عند حد.

فهي ثورة مجيدة شاملة للقضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية... كما أنها تحوي الكثير من الدروس والعظات والعبر، إضافة إلى ما تنطوي عليه من مأساة خالدة، وفاجعة كبرى، أقرحت الجفون، وأجرت العيون، وأبكت المؤمنين، بل سائر الأحرار من مختلف الملل والديانات بدل الدموع دما.

وثورة بهذا الحجم من السعة والكبر والعظمة والعطاء... من الطبيعي جدا أن تتعدد الثقافات في فهمها، وتختلف العقول في استيعابها والاستفادة منها، وأن يتعامل معها كل مجتمع، بل وكل فرد حسب معطياته الفكرية، وإمكاناته العقلية، ووفق ما يملكه من زاد معرفي، ومخزون ثقافي.

فأصحاب الثقافة المحدودة، والمعرفة الناقصة، والعلم القليل، والعقول الصغيرة، ترى فهمهم لهذه الثورة المظفرة فهما ساذجا، ونظرتهم إليها نظرة قاصرة، وتعاملهم معها تعاملا جدا خاطئ، فهم - دائما وأبدا - يدورون فقط في فلك المأساة والمصيبة، ويصورون الإمام الحسين - بكل ما فيه من عظمة وعزة وإباء وجهاد وتضحية وفداء وعطاء - وكأنه ذلك المسكين المظلوم، الذي افترسته الذئاب الضارية، ونهشت لحمه عسلان الفلوات، فسفكت دمه الزاكي، وقتلت رجاله الأوفياء، وسبت نساءه الثاكلات، وضربت أطفاله الصغار، ونهبت رحله وحرقت خيامه... وكأن الحسين - عند هؤلاء - فقط دمعة لا أكثر، فيبكون مصابه الأليم، ويتألمون لفاجعته الكبرى، ويندبونه ليلا ونهارا وسرا وجهارا... دون أن يتعمقوا في فهم ثورته الخالدة، التي ثلت عروش الظلم والطغيان، وأعادت الحياة إلى الدين، بعد أن كاد أن يندثر ويصبح أثرا بعد عين.

أما أصحاب العقول الواعية، والفكر الناضج، والفهم الكبير، والمعرفة العميقة، فلم يقفوا عند حدود المأساة الدامية فقط، بل أيضا انفتحوا على الثورة الحسينية المظفرة، وتعمقوا في دراستها، وغاصوا في أعماقها، وحاولوا فهمها واستيعابها، ومعرفة أهدافها وغاياتها، وأسباب تفجيرها، والآثار المترتبة عليها... وحاولوا الاستفادة من كل ما فيها من دروس وعظات وعبر وتضحيات في سيرتهم العملية وواقعهم المعاش، حتى استطاعوا أن يبنوا لأنفسهم ولأمتهم تاريخا حافلا، وإنجازا عظيما، ومجدا خالدا... بتحقيقهم للكثير من الانتصارات السياسية والعسكرية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية... وغير ذلك من الإنجازات العظيمة، التي هي محلّ الفخر والاعتزاز، والتي ما كان لها أن تتحقق لولا الانفتاح على ثورة أبي عبد الله الحسين برشد ووعي، ومحاولة فهمها فهما صحيحا، والاستفادة منها استفادة حقيقية، كما يصرح أصحاب تلك الإنجازات أنفسهم، إذ طالما أكدوا وما زالوا يؤكدون وسيظلون يؤكدون أن كل ما عندهم إنما هو من عند الإمام الحسين وببركته وبركة ثورته صلوات الله وسلامه عليه.

إذن لا شك ولا ريب في أن هناك اختلافا كبيرا بين الناس في فهم الثورة الحسينية، وكيفية التعامل معها ومدى الاستفادة منها، كل حسب طاقاته وقدراته ومعرفته وثقافته واطلاعه وفهمه واستيعابه ووعيه وفطنته وعقله وفكره.

فعطاء سيد الشهداء لكل أحد، وكل أحد يأخذ من هذا العطاء بقدره.