من وحي عاشوراء..
منذُ ولادة الإمام الحسين والرسول الأعظم ﷺ يؤكد على قيمته الحقيقية عند الله تعالى وفي نفسه ويوضح كل جوانب هذه الشخصية التي أعدها وأهتم بكل أبعادها التربوية والدينية، بل أهتم بتفاصيل التفاصيل فيها، كل ذلك لدورها الريادي الذي تُعد له تحت نظر الله تعالى وبإشرافه عليها ووالده أمير المؤمنين من بعده وأخيه الإمام الحسن عليهم الصلاة والسلام، ويأتي هذا الاهتمام لموقعيته للدور المناط له لمحافظته على الدين وعلى الإسلام، فقد تحدث النبي الأكرم ﷺ عن مرحلة مهمة وحساسة في فترة حرجة تمر فيها الأمة، وكيف أن هذه الفلذة التي أسهب النبي الأكرم ﷺ في اهتمامه بها من خلال تعظيمها وإبرازها في الأمة بالحديث عنها بتفاصيل ما سيحدث لها من الأمة تارة، وإظهاره لخوفه عليها بالتقبيل وبالبكاء تارة أخرى، كل ذلك كان أمام أعين ومسامع المسلمين ما جعلهم يستغربون فعل النبي الأكرم، وأخذُ يتساءلون عن فعله هذا وبكائه وهو طفل صغير، فأخبرهم عن ما سيجري عليه وعلى أهل بيته من بعده من قتله وإراقة دمه وسبي حريمه ونسائه في أبشع جريمة تحصل في تاريخ الإنسانية يبقى صداها وأثرها شعلة في نفوس المؤمنين لا تنطفئ أبداً، يقول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وعلى آله: ”إنّ لقتل الحسين حرارة لن تبرد أبداً“..
وها نحن نره هذا الأثر الذي أكد عليه النبي الأكرم ﷺ مراراً ليعي أبناء الأمة ما سيجري على الحسين من بعده ويشهدهم أمام الله على لسان حفيده الحسين حين ما خَطب القوم في يوم عاشوراء وذكرهم بحديث النبي عنه وعن أخيه، من هنا فإن كلمات سيد الشهداء يوم عاشوراء توضح بل ترسم أمام المواعين والمصلحين خارطة طريق للاطلاع على الكثير من أمور النهضة المباركة ”أيّها النّاس انسبوني مَن أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي، أوَ لَم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ والله ما تعمدتُ الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت، عليه أهله ويضرّ به من اختلقه وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟“ لطالما كانت الكلمة طريق الإصلاح الأول وبها سلك الأنبياء والمرسلون إلى القلوب فحاوروا النفوس وتحدثوا إلى الضمائر وأقاموا الحجج والبراهين، والكلمة الطيبة أبلغ من أي شيء آخر في الإصلاح الذي هو غاية الإمام من ثورته المباركة ويشهد لذلك وصيته المشهورة لأخيه ابن الحنفية، ”انى لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ﷺ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبى على بن أبى طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد على هذا أصبر حتى يقضى الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين“، وأكدت ذلك عقيلة الطالبين زيين الكبرى بنت أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب عليهما السلام عندما أخبرت به يزيد في مجلس الشام، ”فكد كيدك واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين“..
[تكمن عظمة الدور الملقى على عاتق السيّدة زينب ، حيث إنّها من يوم العاشر من محرّم، وعندما وقفت على جسد أبي عبد الله الحسين، وخاطبت بارئها عزّ وجلّ ”اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان“ أقسمت بدم الحسين الشهيد بأنّها ستحفظ له العيال، وستنشر واقعة كربلاء في كلّ مكان. حملت السيّدة زينب مشعل الشهادة الملطّخ بدماء الحسين وكلّ الشهداء، ورفعت مع بقيّة السبايا ومع الإمام زين العابدين لواء المظلوميّة وسارت مرفوعة الرأس منصوبة الهامة، لم تكسرها المصيبة، ولم تحطّ من عزيمتها، بل أعطتها صلابة قلّ نظيرها عند النساء، فسارت السيّدة زينب ، من بلد إلى بلد، وسلاحها لسانها الفصيح، فصارت تبيّن للناس ما جرى في كربلاء، وما فعله بنو أميّة بهم، والّذين حاولوا بإعلامهم المضلّل تشويه الحقائق وإخفائها عن الناس البسيطة المقموعة من قبلهم بقوّة السلاح والمال. فلم تترك فرصة واحدة إلّا وخاطبت بها الناس المؤيّد والمعارض في ذلك الزمن، علّها تنقذهم من جهلهم ويعودوا إلى صواب الطريق]، وحمل هذا الدور الإمام زين العابدين والأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم من بعده طوال حياتهم والخُلص من أتباعهم حتى أمتد إلى هذا الزمان، وسيبقى إلى ظهور قائم آل محمد عجل الله تعالى فرجه..
وها نحن والعالم كله نعيش أحداث هذه المأساة العظيمة بكل تفاصيلها البشعة والمؤلمة نستنكرها ونرفض كل أساليب الظلم الذي يقع على البشرية، ليتخذ منها الواعون والمصلحون الدروس والعبر، فتخليد ذكر الحسين وأهل بيته هو تدبير إلهيّ ورحمة من الله عزّ وجلّ بأن يبقى ذكر شهادة الحسين ومظلوميّته وعطشه محفورة في تاريخ البشريّة تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل وعلى مرّ العصور والدور، وستبقى هذه الذكرى حيه في نفوس المؤمنين رسالة خالدة وشعلة تضيء الحياة..