آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:58 م

أوقاتنا المهدورة

ابراهيم الزاكي

يصعب القول بأن ثقافة الوقت واستثماره، ومعرفة ثمنه وأهميته، في مجمعاتنا، هي كثقافة بعض الشعوب الأخرى في الشرق والغرب، ممن أدركت قيمة الزمن، وحرصت على استغلال الوقت واستثماره وإدارته لصالح الإبداع وصنع التقدم ونهضة مجتمعاتهم، بل على العكس من ذلك يمكن القول بأن ثقافة الوقت واحترامه من الأمور الغائبة أو المغيبة في مجتمعاتنا، سواء كنا أفراداً أو جماعات، حيث تقدم الآخرون وتأخرنا بسبب إهدار الوقت، وإضاعته فيما لا يفيد، وغدَت ظاهرة اللامبالاة بقيمة الزمن وإضاعة الوقت وهدره ملموسة في كل مكان وعلى كل مستوى، وهو الأمر الذي تؤكده الكثير من المشاهد والممارسات والسلوكيات اليومية.

وعلى سبيل المثال، كم هي الأوقات التي تُهدر في اللهو والعبث أثناء استخدامه منتجات وتقنيات الحضارة الحديثة؟ فبدل أن تكون هذه الصناعات التقنية والتكنولوجية وسيلة للمعرفة والتواصل والإنتاج والعمل، والرقي بحياة الإنسان، وتطوير مهاراته وأسلوب معيشته، والتخفيف من أعباء وثقل الحياة عليه، تحولت إلى وسيلة لاستنزاف الوقت والجهد والمال والعمر، وتعطيل الإنتاج والعمل. فالواقع الحياتي واليومي المعاش يشير إلى أن هذا التقدم في وسائل الاتصال والتواصل الحديثة أخذت تُستغل بطريقة سلبية في ترويج التسطيح الثقافي، ونشر الرذائل والتحرش والجهل والخرافات والشعوذة والكذب والشائعات والفتن والنصب والاحتيال.

ولعل الكثير منا دون أن يعلم، قد دفن نفسه خلف هذا الإعلام الجديد، كما تقول ”أنوار عبد الله أبو خالد“، ”سواء كان ذلك خلف شاشات التلفاز والقنوات الفضائية، أو خلف صفحات النت والمواقع الاجتماعية ومواقع الدردشة، أو مقاطع اليوتيوب، ساعات لا تُعد من ضياع الأوقات والجهد على لا شيء، سوى قتل الوقت وإزالة الطفش، ولكنها في الحقيقة سجون اختيارية توضع فيها المجتمعات العصرية فتغسل بها أمخاخها بالإعلام الموجه، وبالأغاني الماجنة، والأفلام الهابطة، ومشاهد العنف والعري والجنس المبتذل، ثم تحشيه بعد ذلك بالتوجيهات المطلوبة، والدعايات المرغوبة، والتقليعات الصارخة، والرغبات المستعرة، التي تعطل العقل، وتدفن الحياء، وتخنق الدين والخلق“. [1] 

وعلى خلفية هذا السبب يأتي الحديث عن أهمية الوقت والتأكيد على قيمته في حياة الإنسان، والحفاظ عليه، وعدم تبذيره عشوائياً في التسابق المحموم على شراء واغتناء أجهزة ومنتجات وسائل التقنية الحديثة، واستخدامها بشكل مسرف ومبالغ فيه، وتضييع الأوقات في الرغي والثرثرة والغيبة والنميمة، وتجاذب الأحاديث الفارغة، فما ينفق على الثرثرة الهاتفية كما يقال في مجتمعاتنا يقترب من أرقام فلكية، بالإضافة إلى إهدار الوقت في مشاهدة التلفاز والقنوات الفضائية والأفلام والمباريات والألعاب الإلكترونية بشكل مبالغ فيه، والإسراف في تصفح الإنترنت، والإغراق في مشاهدة المرئيات بالساعات الطوال على حساب أشياء كثيرة أكثر جدوى وذات مردودات أكثر قيمه.

لا شك بأن للتقنية إيجابياتها إذا أحسن استخدامها، كما أن لها سلبياتها الجلِيّة عند إساءة استخدامها. والإنسان الواعي المسؤول لا يفني عمره ووقته في أمور عبثية وهامشية، أو ذات طبيعة مخلة بالآداب، أو في أمور تثير الأحقاد والضغائن وتزرع الفتن، ولا تشغله التكنولوجيا الحديثة ومنتجاتها الكثيرة عن الاستغلال الأمثل لوقته، أو أن تتحول في حياته إلى هدف في ذاتها، بدل أن تكون وسيلة نافعة ومجدية في اكتساب العلوم والمعارف، ونشر الوعي والثقافة والقيم الفاضلة الخيرة والايجابية، وتطوير الذات الفردية، بعيداً عن أن يكون هو وسيلة وسبب في نشر الرذيلة، أو الترويج للقيم السلبية.

إن الوقت هو عمر الإنسان ومجموع أوقاته، وهو حياته كلها في هذه الدنيا. والوقت هو أهم شيء في هذه الحياة، فاللحظة التي تذهب لا تعود أبداً، وكل لحظة تمر على الإنسان من عمره القصير من دون أن يستفيد منها، أو يفيد غيره، تعد لحظة ضائعة، والزمن الذي يمضي لن يعود مرة ثانية، ولن ينفع الندم أي أحد على عدم استغلاله أوقاته الاستغلال الأمثل، إذا لم يعتني بالوقت ويستغل فراغه ويغتم الفرص ويملئها بالعلم والعمل. فلا أحد يستطيع أن يعيد عقارب ساعة الزمن إلى الوراء، أو يعوضها بعد أن تضيع وتتبدد، أو حين يهرم وتسوء صحته، ويجد نفسه على مشارف الموت.

فكم هم هؤلاء الذين يشعرون بالحسرة والندم بعد أن أضاعوا وبددوا أفضل وأقوى سنوات أعمارهم من دون استثمار، ومن دون أي إنجاز يذكر. وإذا كان هناك من يمكن أن ينتبه لأهمية الوقت وقيمته عند منعطف ما من مراحل حياته ويحاول استدراك بعض مما فاته وبدده أو تعويض ما تسرب منه، إلا أن هناك آخرون يشعرون بالحسرة والندم والخسران بعد أن فاتهم قطار الوقت، ولم يعد اللحاق به أو تعويضه أمراً ممكننا.

خلاصة القول إن الوقت من أكثر الموارد محدودية في حياة الإنسان. فالدقائق والثواني من حياة كل واحد منا لها وزن وحساب. فإذا أقبلنا عليها انتفعنا بها واستفدنا منها، أما إذا غفلنا عنها فسوف تمر ولن تعود أبدا. ويجدر بالإنسان العاقل تعلم كيفية التعامل مع الزمن، وألا يفرط في لحظة من وقته، وأن يستغل كل دقيقة في حياته بالطريقة المناسبة، والاستفادة من ساعات يومه فيما ينفعه ويفيد ناسه ومجتمعه، وأن يحرص على استثمار وقته منذ بداية اليوم بالتخطيط والعمل، وبما يعود عليه وعلى مجتمعه بالخير والسعادة والنماء.

إن القيم الدينية وقيم العصر الذي نعيشه تفرض علينا ضرورة إعادة الاعتبار إلى قيمة الوقت واستغلاله بصورة مثلى. فقد ورد عنه ﷺ: «بارك الله لأمتي في بكورها»، وهو دليل على أهمية الوقت، وأهمية استغلاله منذ الصباح الباكر. وهذا يتطلب الحرص على النوم المبكر، والاستقاظ المبكر، والتبكير في أداء الأعمال. فلو نظم كل فرد وقته، ووزع ساعات نهاره وليله لأداء ما عليه من واجبات دينية ودنيوية، وحرص على إيجاد الوقت الكافي لبناء ذاته وتطويرها، لتقدمت مجتمعاتنا في كل مجالات الحياة.

[1]  سجن النفس الاختياري. أنوار عبد الله أبو خالد. جريدة الرياض. 27/05/2011