اللغة وصناعة الواقع..مفردات العلوم أنموذجًا
فتحت جائحة كورونا عيون الناس على أشياء ما كانت في قائمة اهتماماتهم السلوكية أو المعرفية؛ وبما أن الجائحة سببها فيروس، سُمِّي بعد فترة من بدايتها ب «كوفيد-19» «COVID-19». بدأ كثير بالبحث عن الفيروسات والسؤال عنها. من ضمن الأسئلة المطروحة كان سؤال هل هي ”حيَّة“ وهل بالإمكان ”قتلها“؟ وقد تبين، في زحمة الأسئلة والإجابات، أن هناك جدل بين الفلاسفة وكذلك بين علماء الأحياء «Biology» حول صفة ”الحياة“ للفيروسات، كما اتضح، أيضًا، أن ”اللغة“، مساهمة «بقوة» في الجدلية القائمة، إن لم تكن هي سببه.
يصر بعض علماء الأحياء والفلاسفة على أن الفيروسات تمتلك خاصية الحياة، بينما يرفض خبراء آخرون ذلك. ولكن، رغم التراكم المطَّرِد للبيانات منذ اكتشاف الفيروسات، فقد احتدم الجدل حول اعتبارها شكلًا من أشكال الحياة من عدمه [2] . ربما يرجع ذلك إلى أن الجدال لا يتعلق حقًا بطبيعة الفيروسات، بل بتعريف ”الحياة“ الذي لم يتفق عليه العلماء أيضًا. إن عدم قدرة العلم على تعريف ”الحياة“ لا يكشف فقط عن نقص القدرة المعجمية، ولكنه يشير أيضًا إلى قضية أوسع، وهي الطريقة الغريبة التي ترتبط بها علاقة ”العلم“ ب ”الكلمات“، وعلاقتهما ب ”الواقع“.
من الواضح أن ”الكلمات“ «لغةً واصطلاحًا» لا غنى للعلماء عنها للتواصل فيما بينهم وإبلاغ نتائجهم إلى الآخرين، الذين يشاركونهم ”الحياة“، بالعيش على هذا الكوكب، حتى في أكثر العلوم الرياضية، يجب إرفاق الكلمات بالرموز من أجل ربط العلاقات الرياضية بظواهر العالم الحقيقي. تصف كلمات مثل ”الطاقة“ أو ”القوة“ أو ”موتّر/ممدد الإجهاد“ كيانًا ماديًّا يتوافق مع رمز في المعادلة، لكن العديد من الأفكار العلمية لا تتحول إلى تعبير رياضي أنيق؛ لذا فإن الكلمات تتصرف لوحدها لإتمام المهمة، وفي بعض الأحيان تنشأ الأفكار بالكلمات.
على مر التاريخ، غالبًا ما صاغ العلماء كلمة قبل صياغة الفكرة الأساسية بالكامل، كما كتب يوهان فولفجانج فون جوته «Johann Wolfgang von Goethe»، في مسرحيته الشعرية فاوست «Faust»، ”في غياب الأفكار، يمكن للكلمات أن تنقذ“، وفي ترجمة أخرى، ”بالكلمات، العقل يبتكر“. لذلك أحيانًا يعتمد العلماء مصطلحًا، ويستخدمونه على نطاق واسع، على الرغم من عدم وجود تعريف دقيق له ومتفق عليه.
ومصطلح ”الحياة“ مثال واضح على ذلك؛ إنها كلمة يفهمها الناس ”بداهةً“، لكن ”شرط البداهة وحده ليس معيارًا صادقًا للحقيقة. هذا الذي أشار إليه كانت [Kant]و رينوفيه [Renouvier] بقولهما: إن هنالك بداهة شخصية خداعة ومضللة. ألا ترى أن المعاني التي نجزم ببداهتها هي المعاني الموافقة لميولنا وآرائنا ومعتقداتنا؟ ونحن نفهما بسهولة، ونمنحها قيمة موضوعية تامَّة من دون أن تكون مطابقة للحقيقة؟“ «المعجم الفلسفي، ج. صليبا، ج1، ص 200» [3] ، فكلمة ”حياة“، في الواقع، هي بلا ”تعريفٍ“ علميٍّ مرضٍ أو مقنع للجميع.
كتب عالِمَا الكيمياء الحيوية أثيل كورنيش بودين وماريا لوز كارديناس «Athel Cornish-Bowden and María Luz Cárdenas»، من جامعة إيكس مرسيليا في فرنسا، في عدد فبراير «2020م» من المجلة العلمية ”الأنظمة البايولوجية: «BioSystems»“ ”نعتقد جميعًا أنه يمكننا التعرف على كائن حي عندما نرى كائنًا واحدًا، ولكن ليس من السهل جدًا تقديم تعريف ل“ الحياة ”التي تشمل جميع الكيانات التي نعتبرها حيّة، وتستبعد الكيانات التي لا نحبها.“ بعض التعريفات المقترحة للحياة، على سبيل المثال، تشمل القدرة على التكاثر، لكن البغال «mules» لا يمكنها التكاثر، كما أبان كورنيش وكارديناس، ورغم هذا معظم الناس يوافقون على أن البغال كائنات حيَّة «لديها حياة»، وهذا ما يؤكده علماء الكيمياء الحيويَّة، وأضاف العالمان: ”إن أخذ رأي الأقلية بأن البغال لا يمكن اعتبارها على قيد الحياة لا يحل المشكلة، لأن العديد من الناس، بما في ذلك العديد من علماء الأحياء المتميزين، قد تجاوزوا السِّن التي يمكنهم فيها التكاثر، ولكنهم يرفضون أي ادعاء بأنهم ليسوا على قيد الحياة.“ [4]
كلمة ”الحياة“ هي واحدة من العديد من الكلمات العلمية الشائعة التي تستعصي على تعريف دقيق، وكثيرًا ما استخدم العلماء مصطلحات أكثر غموضًا، عادة كمواقف لأفكار بدائية غير دقيقة، بعضها اتضح أنه في جوهره صحيح، والبعض الآخر خطأ تمامًا. على سبيل المثال، اخترع الإغريق القدماء كلمة ”ذرة“ لوصف أصغر أجزاء من المادة ”غير القابلة للتجزئة“، لكن لم يكن لدى أي يوناني أي معرفة فعلية بما كانت عليه الذرة بالفعل، «وبالطبع، لم يكن لديهم دليل على وجود ”ذرات“ في الأصل، كما جادل منكر الذرة أرسطو بقوة»، لكن المفهوم اتضح أنه صحيح تقريبًا. في المقابل، أصر الكيميائيون في القرن الثامن عشر، على أن ”النار“ تعتمد على مادة تسمى ”فلوجيستون“ «phlogiston»، لكنها كانت مجرد ”كلمة“ مرتبطة بفكرة اتضح لاحقًا أنها خاطئة تمامًا[5] . وبذات الطريقة، مصطلح» impetus قوة الدفع» كان شائعًا في العصور الوسطى لمناقشة وجهات نظر أرسطو حول كيفية استمرار الأجسام المتحركة في الحركة، فقد زخمه بمجرد أن كشف جاليليو ونيوتن خطأ أرسطو، حتى أصبح الآن مفردة عادية، وأحد معانيها ”الدافع“.
في العصر الحديث، وصفت كلمة ”الجين“ «gene»، مثل ”الذرة“، في البداية فكرة بدائيَّة، لم يتم تشكيلها بالكامل بعد. [6] أثناء القرن الماضي تطور تعريف الجين، على الرغم من أنه لا يزال غير محدد بدقة مثلما يرغب جميع العلماء.
جزء من مشكلة العلم في ربط الكلمات بالمعاني هو، كما يذكر علماء اللغة مرارًا وتكرارًا، بأن هناك دائمًا فجوة بين ”الكلمة“ و”الواقع“ الذي تمثله. العالم اللغوي سامويل إيشي هاياكوا «Samuel Ichiye Hayakawa»، والمتخصص في علم الدلالة «Semantic»، يؤكد في كتابه الشهير ”اللغة في الفكر والعمل“ «Language in Thought and Action» أن ”الكلمة ليست هي الشيء، تمامًا مثلما لا تتطابق الخريطة مع المنطقة التي تصورها. تعمل بعض المصطلحات العلمية كخرائط موثوقة جدًا للواقع، بينما يتبين أن البعض الآخر عبارة عن خداع تؤدي إلى طرق مسدودة“، ويتمثل جزء كبير من التقدم العلمي، حسب الدكتور هاياكوا، في تضييق الفجوة بين الكلمة والشيء، بمعنى تحويل ”العلامات“ المبهمة إلى ”رموز“ أكثر تحديدًا.
من السهل العثور على العديد من الأمثلة للمصطلحات العلمية التي تحاكي المعرفة، في حين تخفي بالفعل نقص الفهم، أو حتى عدم المعرفة. مثلًا، يصر الفيزيائيون على «وجوب» وجود ”المادة المظلمة «dark matter»“ و”الطاقة المظلمة“ «dark energy»، لكنهم يعترفون أنه ليس بإمكانهم تحديد ماهيتها بالفعل. تعكس الألغاز العميقة الأخرى المحيرة لأفضل المحققين العلميين اليوم عدم القدرة على تقريب الكلمات من الأشياء.
”الوعي“ «consciousness» هو مثال آخر صارخ، يشير إلى العمليات العقلية التي استعصت على أي محاولة تقترب من وصف مادي متماسك. وفي المقابل، يقترب ”الذكاء“ «intelligence» قليلًا من أن يكون ذا معنى واضح، ولكن ليس بما يكفي لتجنب جميع أنواع الحجج حول إعادة إنتاجه بشكل مصطنع.
”الوقت“ «time» كلمة أخرى مفضلة للفيزيائيين لكنها مشكلة في ذاتها؛ تشكل مجموعة كبيرة من الأَلْغَاز بسبب أن لها ”معاني“ متعددة ومختلفة؛ ك ”الجزء“ من اليوم، و”الفترة“، و”الزمن“. يضاف إلى هذا، لا يزال الفيزيائيون يتجادلون حول السبب الذي يشير إليه سهم الوقت إلى المستقبل فقط، وما إذا كان تدفق الوقت حقيقة ماديَّة موضوعيَّة أو وهمًا في ”كتلة كونية“ «block universe» إذ توجد جميع الأحداث بالفعل ”هناك“، في انتظار مجرد مراقب واعٍ لمشاهدتها. قد يتبين أن ”أَلْغَاز الوقت“ هي قضايا لغوية أكثر من كونها فيزيائيَّة، وهذا ما يؤكده الفيزيائي جون أرشيبالد ويلر «John Archibald Wheeler» حين يقول: ”لقد واجهنا ألغازًا حول مفهوم الوقت ثم نقول: يا له من أمر فظيع“؛ ”نحن لا ندرك أننا مصدر اللغز لأننا اخترعنا الكلمة.“ [7]
الوقت، في معناه اللغوي العرفي، فقط هو من سيحدد ما إذا كانت كلمات مثل ”الوقت“ و”الوعي“ تعبر عن أفكار أكثر عمقًا مما وصل إليه الفهم العلمي، وربما تتحول إلى مصطلحات ”نبوءة“ تنذر بظهور مفاهيم علمية موثوقة، أو ربما ”الوقت“ و”الوعي“، وكلمات أخرى، مثل ”فلوجيستون“ «phlogiston» ستختفي «فجأةً»، ليصدق عليها قول الشاعر: ”كان صرحًا من خيالٍ فهوى“.
لكن المثير للدهشة حقًا هو عدد المرات التي ”تتنكر“ فيها ”الكلمات“ بوصفها أفكارًا وتصبح نجاحات علمية. ولقد تطورت مجالات بحث علميَّة من بذور كلمات تم اختراعها في غياب أفكار مثبتة بالدليل، كحال ”الذرة“ و”الجين“، وكما قال جوته في مسرحية ”فاوست“: ”بالكلمات يمكن وزن الحجج الدقيقة، بالكلمات يمكن إنشاء أنظمة كاملة“ «With words fine arguments can be weighted، with words systems can be created».
- ”الاسم“ قد يسبق ”المفهوم“ وقد يخلقه.
- المصطلح ”الغامض“ يساعد على إخفاء حقيقة ”المفهوم“.
- اللغة قد تعيق فهم ”الواقع“ أو تدفعه إلى الأمام.