يجبرنا لطف الله..
جزء كبير من الراحة النفسية في هذه الحياة يعتمد علينا، حين نتصالح مع أنفسنا، فنحن نكتشف كل يوم أننا نجهل ذواتنا ولا نعرفها حق معرفتها، فنتعرف على أنفسنا في مواقف الحياة التي نعيشها، ثم نعيد اكتشافها في كل موقف نواجهه، لأن بعض النضج يحتاج لزمن ليكون، وبعض الخبرات تحتاج للنضج، حتى الألم كشعور بالألم، لا نتعرف إليه عبثا بل يحتاج لوقت طويل لندركه، بل حتى انفعالاتنا كردة فعل تجاهها، لا نفهمها جيدا ولا ندرك أسبابها الصحيحة أو الخاطئة الا حين نجتاز مراحل من الحياة، قد تطول أو تقصر.
الدنيا ليست جنة كليا، لكنها كذلك ليست جحيم لا يطاق، ويصبح من الصعب عيشها، كوضع الحالتين اللاتي زارتاني على مدي أسبوعين بالعيادة هذه الأيام، وكانتا لفتاتين في مقتبل العمر بالمرحلة الثانوية أو تجاوزاها للتو بقليل، القاسم المشترك بينهما حالة الحزن والألم النفسي أو الدخول في بداية الاكتئاب الغير مبرر كسبب واضح، ملل الحياة والشعور بالنفور منها، وفقدان متعة الحياة والاستمتاع بتفاصيلها الصغيرة والمبهجة، وعلى حد تعبير الأخيرة ”أنا اشعر أن الحياة بدل أن تحملني، فأنا من يحملها لكثرة الضيق بداخلي منها“.
النظرة اليائسة والشعور بالخيبة، وفرط الحساسية والميل للعزلة والدخول في طوفان الاكتئاب النفسي، والانغماس المفرط في الحزن بلا مبرر، وعدم فهم لغة النفس على طبيعتها، أمور تحصل للكثير من المراهقات، إنها السن الحرجة التي ينعزلن فيها عن واقعهن فيندفعن الى التشاؤم والتفكير بعدم جدوى الحياة، والرغبة بإنهائها للتخلص من الشعور بالضيق! ولهذا بالضبط عليهن أن يفهمن أنفسهن ولا يستسلمن، يتعلمن كيف يقوين ذواتهن، ويكبرن فرحهن ويراقبنه جيدا كيف ينمو، لأن هذا العمر هو عمر الشخصية التي سيصبحن عليها مستقبلا، فإن كن مرهقين من لا شيء الآن، فكيف يمكنهن مواجهة المستقبل فيما بعد حين تكثر الهموم والمتاعب الفعلية!
بالإضافة الى ذلك، رسالة وردتني من زميل لي أشغلته الهموم عن نفسه، كأنها حرب صامتة ضد كل شيء، كان لها أن تأخذ محملها في أجندة يومياتي، التي ما هدأ خاطرها لأحداث مشابهة حصلت بصورة متتابعة، يشكو فيها ضيق الحياة وسوئها معه، ومواجعها التي يراها فوق طاقة تحمله، رغم انجازه فيها!، لم أدخل معه في التفاصيل كثيرا، وخطرت ببالي على إثر شكواه زميلة أخرى تتأرجح في متاعبها، وتتساءل: لم هو نصيب المرء شدة الأمور رغم حسن نواياه معها، ومن ثم بائعة أخرى قابلتها في محل، قبل عدة أيام تعكس ذات الصورة من زاوية مختلفة، مع سوء الأوضاع وارتفاع تكلفة الحياة وقسوتها.
كلنا تحصل لدينا مشاكل وهموم، فبعضنا يمشي على الأرض بمشقة التعايش، يحاول التجمل والابتسام ليستر قلبه بينما جبال من الهموم الثقيلة تطحن أفكاره وتخنق تفكيره، وبالطبع لا أحد منا ينجو من الهم، ودائما نتيقن أن هذه الحياة خٌلقت للكدح والتعب، لكنها أيضا ليست مقبرة، لنموت فيها أحياء ونحن نتنفس، إنما وُجدنا فيها لهدف وغاية. فالابتلاءات الحاصلة هي للاختبار، لمن أنعم الله عليهم بالمقدرة، وأعني بالمقدرة، المادية أو النفسية، وقدرة العطاء بلا مّن أو إيذاء. أو هي حق أخذ أو فرح اغتصب، أو إهانة وجرح وجد حالة نزف قاتل، أو طريق سدت منافذه دون وجه حق، أو هي مرحلة ابتلاء لمن حرم ولمن ضيقت عليه أسباب، العيش وقترت، أو فقد بوصلة التوازن النفسي، لسبب ظلم وقع عليه، أو أمر قضاه الله على صاحبه لحكمة رآها لمصلحته وجهلها هو. نحن جميعنا لا نخلو من مرافقة المتاعب والهموم، والكلام ليس ضربا من التخدير، لكنه واقع نعيشه، هل يمكن للمرء تغيير واقعه سوى بتقبله والتصالح معه خاصة إن لم يجد له حيلة، بعضنا تثمر لديه النصيحة ويتقبلها متصالحا مع ذاته وواقعه من جديد، وبعضنا يظل يترنح من هول الصدمة ويدفع ضريبة باهظة، بينما بعضنا يلعن الدنيا ونفسه ولا يطيق حياته، وبالأخير لا جديد يحصل معه.
قد يدركنا الضيق كذلك من تعاملات تحصل معنا، ونتساءل: هل كنا نقدم للآخرين أحيانا بتصرفاتنا قراءة خاطئة عنا، قد يكون الحوار الممتع العميق مع شخصية عميقة تكسبك الكثير من تجربتها، وتخرج منها بالكثير من الاضافة، وتطلعك على جوانب وزوايا مختلفة من الحياة لم تشهدها، وترتحل بك إلى عوالم استثنائية تفتقدها، للتحرر من حياة روتينية، وأشخاص قرروا البقاء في اطار حياتهم المغلق، تدرك من خلال معرفتك بهم، أن بعض البشر يحتضنون في أعماقهم الكثير من الدهشة والتفرد، والكثير من الجمال والتصالح مع الذات، لكنك أحيانًا تصاب بخيبة أمل حقيقية، حين تكتشف أنهم قرأوك بطريقة خاطئة، أو أنك قدمت لهم نفسك بطريقة يجهلونها تماما، لا يفهمونها ولم يعتادونها مسبقا، وبالطبع فهم لن يحاولوا فهم الأمر ولا استيعابه، وستمضي حيلتهم بنا مع الأيام كمن يراود الشر عن نفسه، برأيي من الأفضل تجاهل الأمر وتركه والانصراف عنه تماما لغير رجعة، فبعض المواقف ترمم نفسها، فلا فائدة في محاولات رتقها مع من لا نجد لديه استعداد لفهمها من الأساس، لكون المحاولات معهم مضيعة وهدرا للوقت والجهد معا. ولأنك واضح يؤرقك التذبذب في التعاملات، ولأنك عميق تهتم بالمعنى والقيمة الانسانية، أو لأنك أكثر جدية، لأن مشاعرك حقيقية، ثابتة، لا تتغير بفعل وقت أو موقف مر عليك.
كنت انصح دوما من يسترشدني في أمره، وأقول له ولنفسي أنه: عليك أن تتمسك جيدا بالأشياء الصغيرة التي تعيد لك وهج روحك، وأن تقبض عليها في كل مرة تواجه أزمة ما، كأنك لم تفقدها مسبقا. ولتعرف أنه لا كمال في الحياة، ولأجل هذا خلقت المحاولات وبوركت كثيرا. محاولاتنا في الحياة والعيش والتعايش، ومحاولاتنا في فهم أنفسنا وصياغة قواسم مشتركة نسربلها بالأمل، والثقة بالله تعالى رغم المرارة. فلا يسعد غير الإنسان الذي يحاول الاستمتاع بالأشياء الصغيرة والمباهج الحقيقية في الحياة، من الأحداث البسيطة العادية التي يعيش تفاصيلها في يومياته. نحن نستمر في الحياة في ذاكرة من يحبنا بعفويتنا ونقاء دواخلنا. ويصيبنا جزء لا يستهان به من الأذى حين نكون مدركين وواعين لكل شيء حولنا، لأنه بكل بساطة، يموت المرء لمجرد أنه عرّض قلبه للأذى ووثق بمن لا يستحق، وحين فقد شعوره بالحب وألفة الأصدقاء، فالنوايا الجيدة لا تشفع دوما في رفع الاذى ولا اماطته عنا، فبعضهم يملك من القسوة ما تشيخ بمعرفته الأيام!.
بالأخير كل شيء يدور حولنا من أحداث حسب قدرتنا على تحملها، ولهذا ستجمعنا الحياة وترتب أجزاءنا، وتساويها كما فككت دواخلنا، فكن مع الله لتنجو من كل هم وضيق، ليس تسوية ولا شراء خاطر وجبر للكسور، لكننا ننجو دائما برفقة أحلامنا وأمنياتنا الطيبة العفوية مهما كانت صغيرة، ننجو برفقة من نحب أيا كانوا فقلوبهم تحمينا، وبرفقة أنفسنا والتصالح معها مهما نظر لها الآخرين وحجموها، نحن ننجو مع الله فعلا كلما تيقنا به وسلمناه مقاليد أمورنا وفوضنا له طاقتنا ومقدرتنا وضمائرنا ليرعاها بحسن تصرفه فيها. فكن مع الرامي ولا تقلق، فأيامنا مليئة بالحروب ولا انتصار فيها لأنفسنا إلا به، وقد يكون هناك أمر ما قدره علينا، يغسل كل هذه المعارك حين نشعل الأمل فينا ولا نسمح للحظات الثمينة أن تموت. فنحن مع الله، لا نعرف النهايات المسدودة ولا الحالات المتعبة، ولا المشي في الطرق المقطوعة والمحاصرة، ولا نطيق الانتماء لحالة الضياع الطويل والحزن الا منتهي، ودائما برغم الانكسارات التي نتعرض لها، تشير بوصلة قلوبنا نحو السماء، نحو الله «الرامي»، فهو حتما سيجبر كسورنا وينصر هزائمنا ويداوي جروحنا بلطفه، بالقدر الذي نرتضيه، بل وأكثر.