لغة العناق..
هزني المشهد المتداول مؤخرا لأخ خرج من الحجر الصحي حديثا فجاءت عائلته لاستقباله ”متحرزين“ من محاولة لمسه رغم فرحهم بشفائه، لوجل الإصابة بداء ”الكورونا“، لكن أخيه أقبل عليه ليحتضنه بكل ما يملك قلبه من حب له، بينما أخذ هو بضع ثواني ليبادله عناقه خوفا عليه من الضرر.
المشهد الحاصل بحد ذاته لطيف جدا، وعلى بساطته وعفويته جاء يعكس مأساة الجائحة التي نحياها، لكنه من جانب آخر جاء ليقرر حقيقة مهمة وهي، مبدأ التباعد الاجتماعي، الحضن والعناق وبث التحية والسلام بالمصافحة من على بعد لتحقيق مسافة آمنة، ويركز على قضية العناق الجسدي الذي هو حاجة عاطفية هامة للبشر، فالعناق صورة من صور الحميمية الجسدية بين الناس، وهو لغة للتواصل البشري ومن أهم طرق التواصل الجسدي بينهم، بل وأكثرها فاعلية نفسية، بحيث يشعر المرء من خلاله بالطمأنينة والراحة. ويساعد العناق على بناء الثقة بين الأشخاص المتقاربين، وخلق حالة الإحساس بالأمان، مما يخلق علاقات اجتماعية آمنة ومفتوحة. كما أنه يعزز من معدلات هرمون «الأوكسيتوسين»، الذي يساعد على معالجة الإحساس بالوحدة والاكتئاب لدى البعض.
العناق حاجة بشرية غيرتها الجائحة أو جعلتها تتضاءل وتضمحل هذه الفترة تحديدا. تقول ”فيرجينيا ساتير“، اختصاصية اجتماعية ومتخصصة في العلاج الأسري وأنماط التواصل: ”نحن نحتاج يوميا لأربعة أحضان لنعيش، ولثمانية لنعالج أنفسنا، ولإثني عشر لننمو ونتطور“.
وكما هو معروف فالعناق حالة وجدانية عميقة، تجسدها الحالة الجسدية ورغبتها باحتضان من تحب للتوحد معه، وهي غريزة حتى عند الحيوانات والنباتات درسها علماء الطبيعة، ولذا يحتاج المرء لبعض المجسدات لها، فالله تعالى معبود في كل مكان، ومحله القلب في ضمير المؤمن، ومع هذا وضع له شروط عبادية ومحل يحج إليه كالكعبة المشرفة، مكان مقدس يعبد فيه، وهو بيت الله الحرام، لكون الإنسان مهما كان مستوى يقينه، فهو بحاجة للمادة لتتناسب وطبيعته الفكرية وادراكاته المحدودة.
هكذا أعرج أنا بأفكاري لقصة بني اسرائيل الذين غاب عنهم موسى في رحلة المناجاة، فعمد السامري إلى بناء العجل من قبضة الرسول، وادعى أنه إله لهم، فصدقه حديثي عهد الإيمان، ولكونهم معتادين على العبادة الحسية أكثر من الوجدانية والقلبية، دخلوا معه في مرحلة الخلط والتوهان ففقدوا فرصة الثبات في يقينهم.
ولطالما استوقفتني تفاصيل القصة بحيثياتها منذ حداثة سني، وأنا أتساءل عن عقاب السامري، وكيف بدا قاسيا ومهولا بسبب عظم جرمه وفداحته، بأن عاقبه الله من جنس اختياراته:» قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه»، أي أن لا تدنو من أحد، ولا يدنو منك أحد، وتطرد وتنبذ من الناس في البرية، ولا تخالط أحد منهم، حتى جسده لا يمسه. وكان هذا بداية تمزق جسدي ونفسي بشع للغاية، وللحقيقة هي عقوبة موحشة جدا، وثقيلة على نفس الإنسان الذي يتوق إلى الاجتماع بالناس والتآلف معهم والأنس بهم، كطوق حماية ونجاة يحتاجه في الحياة، كلما صعبت واستغلقت عليه الأمور وضاقت منافذها.
ويحق لنا أن نتساءل كذلك في ظل ما نعيشه اليوم: هل العناق ضار كما يعتقد البعض؟!، يظن بعض الناس أن عناق الكثير من الغرباء أو العناق بشكل عام، يزيد من احتمالية تعرض الشخص للجراثيم ومن ثم احتمالية مرضه، ولكن الدراسات الأخيرة تقول غير ذلك، فبعضها يؤكد بأنه بالإضافة إلى أن العناق يجعلنا أكثر تواصلًا ودفئا وحميمية مع الآخرين، إلا إنه أيضا يحمينا من الأمراض والتوتر. لذا قام الباحثون في دراسة أجروها على مجموعة من الأشخاص، لقياس مدى الدعم الاجتماعي الذي يتلقونه من ذويهم كالعناق. حيث تم حقنهم بفيروس مسبب لنزلات البرد، وتمت مراقبة ما قد يحدث لهم. فوجدوا أن الذين تعرضوا لدعم اجتماعي جيد، من عناق وتواصلٍ جسدي حسي، جعلهم أقل عرضة لنزلات البرد مقارنة بغيرهم من الذين لم يتلقوا دعما اجتماعيا مماثلا. مما يثبت أن العناق فعلا، يساعد على تقليل حالة التوتر والوقاية من الأمراض، وبرأيي الشخصي عدا عن الجائحة وظروفها التي نعيشها اليوم ونحن مقيدين بتفاصيل التعايش معها، فإن العناق الضار والمؤذي هو ما يلزم به المرء من أشخاص بغضاء لا يكن لهم أي محبة، ويعرف أنهم لا يبادلوه ذات الشيء. فالتواصل الجسدي ضروري لكوننا بخير في العموم، وأن نظرية «الجوع الجسدي» في التعامل مع الضغوط الحياتية اليومية سبب للقلق والتوتر، ولذا فإن المرء عند عناقه لشخص مهتم ومهم بالنسبة له، مما يجعله يشعر بارتياح عند حصوله على الاهتمام المطلوب من العلاقات الموجودة في محيطه.
وفي هذا العالم هناك أشخاص حرموا من العناق والتواصل الحسي الإنساني الراقي، لذا نسمع عن نوادي للعناق ببعض المجتمعات الغربية التي تعتبره كتعويض نفسي وجسدي لمن حرموا منه، فهل هي كافية للتعويض، لست أظن ذلك، لأنها بلاستيكية، مؤقتة، مغلفة لا حقيقية، ولا مشاعر صادقة مستمدة منها. والبعض الآخر رغم كونه يحظى بتوافر وسائل التقارب والتواصل في مجتمعاتنا، غير أنه يفتقد للحس فيها، فهو يشعر بالغربة والانزواء القاسي والحرمان الفعلي رغم كونه محاط بأسرته وأحبابه، لذا تأتي صورته النفسية مشوهة وفارغة ومليئة بالخواء النفسي والوجداني، ويعاني أقسى انفلات الطاقة والراحة من داخله.
ولعلنا فيما بعد نخرج من فترة حضر التقارب الجسدي والعناق والمصافحة بفكرة جيدة، كونه فرصة لنبذ النفاق والتخلي عن بعض العادات السيئة والسلبية التي شغلت المجتمع وفرضت نفسها عليه، رغم اقرار الكثيرين بعدم مصداقيتها أو رفض الدواخل لها. فلعلها فترة تدريب وتأهيل للمشاعر لتكون عفوية وصادقة وحقيقية في زمن خالطه الكثير من الزيف، بل هي فترة انتقاء الأفضل للمرء، فالمرء بالأخير حيث يقرر أن يضع نفسه.