مشكلة الأميّة الثقافية في المجتمعات العربية
مشكلة الثقافة في المجتمعات العربية لا تنحصر في إطار ما يمكن تسميته بالأمية الأبجدية، أي عدم معرفة القراءة والكتابة، بل الأمر يتعدى ذلك إلى مشكلة الأمية الثقافية، والمتمثلة في ضعف التحصيل المعرفي عند الدارسين والمتعلمين. وبعبارة أكثر وضوحاً ليس كل من عرف فك الحروف، وتعلم القراءة والكتابة، وأنهى تعليمه العام، أو قد يكون أنهى تعليمة الجامعي، خرج من أميته، وتجاوز جهله، وأصبح في عداد العارفين والمثقفين.
وحسبنا هنا، بعض أولئك الحاصلين على شهادات دراسية، والذين تكاد تقتصر معلوماتهم على مجال تخصصهم، أو في نطاق عملهم الروتيني اليومي فقط، ولا تخرج عن ذلك إلى رحاب المجالات المعرفية والثقافية الأخرى، مع الإشارة إلى أن التحصيل المعرفي الذي نعنيه لا يعني إتقان أو الإلمام بمختلف المعارف والإحاطة بتفاصيلها، وإنما القدرة على تثقيف الذات في العديد من المواضيع التي تجعل الفرد شخصاً مثقفاً وواعياً من خلال الاطلاع والقراءة، ليس فقط في مجال العمل والتخصص الذي يمارسه، وإنما الاطلاع على المواضيع المختلفة والتي تساعده على تطوير ذاته، وتهذيب نفسه، والوعي بالواقع المحيط به، ليكون قادراً على مواجهة تحديات الحياة ومصاعبها.
ولعل المستغرب في سياق الحديث عن ضعف التحصيل المعرفي عند الدارسين والمتعلمين والحاصلين على الشهادات العلمية ما أشار إليه ”عبد الجبار الرفاعي“ عن "تتفشى الأميةُ الثقافيةُ والأكاديميةُ بين أعضاء هيئات التدريس في الجامعات العربية بشكل مخيف، فقلّما ترى من يلاحق ما هو جديدٌ في تخصّصه الأكاديمي، وأقل منه من يهتم بمواكبة الإنتاج الفكري بالعربية، فضلًا عن غيرِها من اللغات، أو يتعرّف على الأعمال الجادّة في مختلف الحقول.
وحسب رأي ”الرفاعي“ بأن منصاتُ التواصل الحديثة وتطبيقاتُها المتعدّدةُ والمتنوعةُ تجاوزت دورَ الكتاب التقليدي في التربية والتعليم والتكوين المعرفي، وتغلّبت على مركزيته في البناء الثقافي. غير أن كثيراً من التدريسيين من الجيل القديم لا يحضر على منصات التواصل الحديثة، ولا يعرف شيئاً عن معظم تطبيقاتها، وإن حضرَ لا يتخطّى حضورُه الإسهامَ في العلاقات العامة والمناسبات الاجتماعية، ونادراً ما نعثر على مشاركات نوعية لتدريسيين تعكس ثقافتَهم وتكوينَهم الأكاديمي". [1]
إن النتائج التي توصلت إليها بعض مراكز الدراسات حسب ما يشير ”إبراهيم اليوسف“، كانت مخيبة للغاية، عندما أوضحت أن هناك نسبة كبيرة من خريجي الجامعات، والمعاهد الدراسية العالية في الوطن العربي، لا يقرأون كتاباً واحداً خلال العام الواحد، وهو ما ينم ”وفق هذه المراكز“ عن وجود إشكال كبير في هذا المجال، لا بد من معالجته على ضوء مثل تلك الأرقام التي تحتاج إلى وقفة خاصة.
غير أن الحقيقة، كما يلفت ”اليوسف“، هي أن التمكن من فك الحرف، والتدرج الدراسي، عبر الحصول على الشهادة العلمية، قادران على أن يُخولا المرء إمكان تعاطي الثقافة، عبر المواظبة على عملية القراءة في مستوياتها العالية، لتكوين رصيد ثقافي، تبعاً لدرجة القراءة، وتفاعلها مع عمق تجربة هذا القارئ أو ذاك، إلا أنهما في الوقت نفسه ليسا بمؤشرين نهائيين على جعل المرء مثقفاً، فقد بات من نافل القول إن الشهادة العلمية، لم تعد مقياساً ثقافياً يمكن اعتمادها لإطلاق الصفة الثقافية على صاحبها، خاصة أن الثقافة ”بحسب التعريف الجاحظي“ هي الإتيان من كل علم بطرف، وإن صارت الثقافة الآن تجنح إلى التخصص، بعكس ما كانت عليه في مرحلة المثقف الموسوعي أو الشامل". [2]
وبصريح العبارة ثمة من لا يُقر أو يُسلِّم بأن الحصول على شهادة دراسية أو علمية هو فقط ما يؤهل المرء ليكون مثقفاً وواعياً وحاملاً لمفتاح الثقافة طوال حياته، أو يكون محصناً ضد كل أنواع الشعوذات والخرافات. فإن لم يُنمّي المرء رأس ماله الثقافي والمعرفي، ويراكم مكتسباته العلمية والمعرفية عبر متابعة التحصيل الثقافي اليومي الدائم والمستمر وعبر الزمن ومن دون انقطاع، وإلا فإنه لن يحوز على صفة المثقف العاقل المفكر المدبر، والقادر بحكمته على فهم الواقع من حوله، وتشخيص علله ونواقصه، والتفاعل معه تحليلاً ونقداً، بحيث يكون قادراً على مواجهة مشكلات الحياة وتحدياتها وصعوباتها.
لذلك لم يعد العلم وتعلُمه خاضعاً لمرحلة عمرية معينة يقتصر عليها الفرد، ومن ثم تنتهي صلاحيته في تحصيل العلوم والمعارف، بعد أن يكون قد تجاوز مرحلة الطفولة وسن المراهقة، وانتهى من مراحل التعليم الأساسية، أو الادعاء بأنه دخل في مرحلة عمرية أكبر، وبالتالي أصبح عقله ليس لديه القابلية على التلقي واستيعاب الجديد. بل على العكس من ذلك تماماً، فالتعلم وكسب المعرفة أمر غير محدود بسن، أو مرحلة عمرية معينة، ولا يتوقف أبداً مادام الإنسان يتنفس ويعيش الحياة.
وإذا كان هناك من الناس من يعتقد بأن العلم مرحلة لابد وأن تنتهي عند حد ما، غير أننا وصلنا اليوم إلى زمن أصبح التعليم فيه إلى حد معين جهلاً إن لم يبق مستمراً، ويمتد إلى مراحل تالية لما بعد التخرج والحصول على الشهادات العلمية، وذلك حسب ما تقول ”باسمة يونس“، حيث أصبح العلم نفسه، مع انفتاح بوابات المعرفة من كل حدب وصوب، أكثر امتداداً واتساعاً، وأصبح بإمكان الناس التعلم والاستفادة من الأجهزة والأدوات للاستزادة من المعرفة والاطلاع على المعلومات التي توفر خلفية فكرية وثقافية متوازنة للجميع، بل ويطلق على من لا يستزيد من المعرفة جاهلاً لم يجل عنه أميته الفكرية، وكل ما تعلمه حفنات من المعارف المحدودة التي لا تخدمه مستقبلاً، ولا تساعده على عمل أو فكر.
ومع ذلك، كما تضيف ”يونس“، فقد أنجب التطور مقابل هذا التغير والتوسع في التعلم وانفتاح نوافذ المعرفة زيادة في أعداد الجهلاء والأميين في أكثر من مجال مثل مجال المعرفة العامة والعلوم الإلكترونية، وحتى في الثقافة المجتمعية، مقارنة بأعداد الأميين في الماضي، والذين كانت أميتهم تقتصر على معرفة الكتابة والقراءة فقط، فقد ازدادت مع زيادة الوسائل المتاحة للتعلم والمعارف الجديدة والاستكشافات والدراسات الكبرى، أعداد الأميين في معرفة مجريات هذه العلوم، إضافة إلى أمية البعض في عدم القدرة على استعمال هذه الوسائل والتدرب على كيفية استخلاص المعلومات منها، ويضاف إليهم الجهلاء في معرفة القضايا المجتمعية والإنسانية والذين يتشبثون بمعلومات الحياة القديمة ويتجاهلون التطور والانفتاح المجتمعي، وهم يشكلون بهذا معولاً يهدم التجديد ومفاهيم عقيمة تضر المجتمع أكثر مما تفيده". [3]
غير أن هناك من لا يتفق مع الرأي القائل بأن على الإنسان القراءة والاطلاع في مختلف المجالات والتخصصات حتى تزول عنه كافة أشكال الأمية، حيث يرى ”إبراهيم مبارك“ ”بأن الحديث عما يسمى الأمية الثقافية لا يعدو كونه حكماً مطلقاً، مشيراً إلى أن عدم إلمام الشخص، بجانب واحد من جوانب المعرفة لا يعني أنه أمي، وأن عدم اطلاعه، أو عزوفه عن القراءة، لا يعدان أمية. فالثقافة، بحسب“ مبارك ”لديها مصادر كثيرة، لا تقتصر على القراءة والكتابة، فهي إلى جانب ذلك، الاستماع والتلفزيون والمسرح، وغيرها من أدوات التثقيف كالمحاضرات والندوات. ويبين“ إبراهيم ”أن زمن التخصص فرض على كثيرين الاكتفاء بتلقي المعارف في مجالات محددة دون غيرها. فلا يمكن برأيه أن نطلق على الطبيب الذي لا يقرأ سوى في مجاله أنه أمي، لكونه لا يقرأ الروايات ولا يفهم في المسرح، وهكذا الزراعي الذي لا يهتم سوى بحرفته“. [4]
على أية حال ومهما اختلفت الآراء حول حدود الأمية الثقافية، فإنه من غير المبالغ فيه القول بأهمية التحصيل الثقافي والمعرفي الذي يتم تحصيله عن طريق قراءة الكتب. فالقراءة تعتبر وسيلة تفتح للإنسان آفاق جديدة لاكتساب العلوم والأفكار والمعارف، وتساهم في تطور مهارات الفرد وقدراته. أما العزوف عن القراءة الحرة والنوعية والاكتفاء بما تم تحصيله عن طريق التعليم الأكاديمي، أو الاكتفاء بمتابعة الإعلام المرئي، ومتابعة الإعلام الجديد، ووسائط التواصل الاجتماعي، أو الاقتصار على قراءة رسائل الواتساب، ومشاهدة الأفلام التلفزيونية والمسلسلات، فلن تكون بأجمعها بديلاً عن المعرفة القرائية ذات القيمة النوعية والمعتبرة، والتي تقود إلى النهوض والرقي والتطور، والمساهمة في إنتاج وتكوين العلماء والمبدعين والمفكرين والمثقفين والأدباء.