من أجل تنمية ثقافة الأجيال الناشئة
أطفال اليوم هم رجال الغد وأمل المستقبل. والمجتمعات التي تهتم بأجيالها الناشئة، وتهيئ لهم كل أسباب الرقي، وتحيطهم بمختلف صنوف الرعاية والعناية، وتضع لهم البرامج والخطط التي تنمي عقولهم وابدانهم وتفجر امكانياتهم وطاقاتهم، هي بالتأكيد مجتمعات تضمن لنفسها مستقبلاً ناجحاً ومثمراً، وتطمئن على مصير أبنائها مع المستقبل، ويؤهلها لمواكبة التطور الحادث في عالم اليوم ومتغيراته، واستيعاب تحولاته بشكل سهل ويسير وسلس، فضلاً عن المشاركة في عمليات التغيير من موقع الفاعل والمؤثر، ووضع بصماتها الخاصة عليه.
من غير الممكن لمجتمع يسعى للنهوض الحضاري من دون وضع الخطط والبرامج التي تُعنى وتهتم بتربية وتنشئة النشء الجديد وتنمية ثقافته وصقلها، خصوصاً في ظل التحديات التي تبرز باستمرار مع التداخل والتواصل بين الأمم والشعوب، والذي أفرزته التطورات الكبرى في مجال الصناعات التقنية والرقمية، والتي جعلت العالم يتحول إلى ما يشبه القرية الواحدة، حيث تتداخل فيها الثقافات والأفكار والمعتقدات واللغات والهويات لتلتقي وتتحاور وتتصارع تحت سقف واحد، ولن يكون لمجتمعاتنا قدرة على مواجهة هذه التحديات الثقافية الكبرى اليوم وغداً وفي المستقبل إذا لم تُبنى الأجيال الناشئة على أسس ثقافية قوية ومُنافِسة تزودهم بما يؤهلهم للتعامل مع الحياة بنجاح، وتصبح لديهم المناعة ضد سائر الملوثات التي تحول بينهم وبين تحقيق آمال المستقبل.
وعندما تكون الثقافة على هذه الدرجة من الأهمية البالغة، فمن واجبنا الاهتمام بتثقيف أبنائنا كي نؤهلهم لخوض غمار تحديات المستقبل، وأن نحشد لهم كل أسباب التفوق والنجاح، من خلال الاهتمام بشؤون الطفولة، وإيلاء عناية خاصة لمجالات التربية والتنشئة والتعليم، بالإضافة إلى مجال التوعية والتثقيف، وتدريبهم على ثقافة القراءة وشغف المعرفة، وتوفير كل متطلبات النمو والتطور والإبداع لهم، وتوسيع أفق الخيال عندهم، واكتشاف المواهب بينهم، وتنميها واحتضانها وابرازها، ليكون هؤلاء الأبناء جزءاً من عالم منفتح على الحياة بقيمها الجميلة.
لقد بات يُنظر إلى التنشئة الثقافية، وثقافة القراءة، على أنها من أهم أسس النهوض الحضاري، فالتطور لا يعني فقط أن تتبوأ الدول مكانة اقتصادية أو سياسية متقدمة، إنما يعني كذلك أن تكون الأمم قادرة على تسليح أبنائها معرفياً وثقافياً. فهؤلاء الأبناء هم شباب المستقبل الذين ينظر إليهم باعتبارهم عماد التطور والتقدم، والقادرين على تنمية حاضرهم والوصول به إلى مستقبل مزدهر ومستدام. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال تسلّحهم بالمعارف، وترسيخ ثقافة القراءة لدى الأبناء منذ بواكير أعمارهم، واعتبار القراءة الخطوة الأولى على طريق التقدم والحضارة، وردم الهوة الثقافية والمعرفية بين مجتمعاتنا والمجتمعات المتقدمة الأخرى.
”ففي الوقت الحاضر، تعد العناية بثقافة وأدب الطفل من أهم مجالات العناية بالطفولة، لأن للثقافة دوراً فعَّالاً في شخصية الطفل، فهي التي تكسبه هويته، وتميزه، وتدعم انتسابه إلى مجتمعه. وبات واضحاً جداً أن قوة الأمم اليوم لا تقاس بمدى كثرة أبنائها، وعدد سكانها، وإنما بنوع ثقافتهم، ومقدار نصيبهم من العلوم والتقنية، ومدى اقبالهم على الأبحاث، وشدة محبتهم للعلم والتطور وتعلقهم بهما، وقوة استعدادهم لكسب رهان المستقبل، وهم قادرون على ذلك بالفعل“. [1]
وبما أن القراءة هي وقود الثقافة ومنطلق التغيير والتطور والتقدم أصبح لزاماً إيلاء موضوع القراءة عند الطفل أهمية بالغة، والقيام بعملية تقييم شاملة لدور الجهات ذات العلاقة بالطفل في تنمية ميول القراءة لديه، بدءاً من البيت، مروراً بمرحلة رياض الأطفال، والمدرسة، والمكتبة العامة، ووسائل الإعلام المختلفة، ونوادي الأطفال، ودور الشباب، ومعرفة التحديات التي تفرضها عوامل اللهو المختلفة، ووسائل الاتصال الحديثة، ومشاغل الحياة، ومشكلات المحيط العائلي، إلى غير ذلك من أمور، يمكن أن تحد أو تضعف الرغبة في القراءة والانجذاب إليها، وبالتالي تتسبب في إلغائها من حياة الطفل والناشئة.
وإذا كان الاهتمام بالقراءة يفترض أن يبدأ من سن الطفولة، غير أن المؤثرات الحديثة أضعفت هذا الاهتمام في نفوس الناشئة، بدءاً بتأثير التلفزيون وأفلام الرسوم المتحركة، وانتهاء بالألعاب الإلكترونية عبر الإنترنت. وها نحن اليوم نشاهد كيف انعكست تدابير الحجر المنزلي، المرافق لتفشي وباء كورونا، ازدياداً كبيراً في معدل الأوقات التي يمضيها لاعبو الفيديو في ممارسة هوايتهم، واللعب من دون توقف، بالإضافة إلى الأموال الطائلة التي ينفقونها لهذه الغاية، حيث يتوقع أن يكون قطاع الألعاب الإلكترونية المستفيد الأكبر من هذا الحجر وتحقيق أرباح هائلة، وتسجيل أرقام قياسية محتملة في مستوى المبيعات.
ومع كل ذلك مازال بإمكان المؤسسات التربوية، وخصوصاً الأسرة من جهة، والمدرسة من جهة أخرى، غرس عادة القراءة في نفوس الأطفال، وتنشئتهم وتربيتهم وجذبهم إليها، وتحويلها إلى عادة حسنة، كون هذه المؤسسات التربوية هي الأساس والمنطلق التربوي الأول لنشوء العلاقة بين القارئ والكتاب، بل هي الأكثر فاعلية في هذا المجال، سواء بشكله التقليدي ”الورقي“، أو بالشكل الحديث المتمثل في الكتاب الإلكتروني.