آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:00 م

المثالية الممكنة

محسن المرهون *

تمتلئ حياتنا الواقعية بالكثير من الصراعات على مستوى المجتمعات والثقافات، أو على مستوى الأفراد. وتتخذ عدة موضوعات بعضها مادية وأخرى معنوية؛ كالإيديولوجية والقيمية والثقافية. وهكذا أجد اليوم واحدا من أهم هذه الصراعات وهو على مستوى الأفراد، ويتمثل في مسألة معنوية وهي: ”المثالية“ باعتبارها منهج حياة يروم الفضيلة والتصرفات الحميدة والمثلى في شتى المجالات. في قبال ”الواقعية“ وهي منهج حياة يعتقد أن الإنسان يجب أن يعيش وفق طبيعته وقدراته من دون أن يكلف نفسه ما لا طاقة لها به من التصرفات النموذجية التي يدعو لها التيار المثالي، وبل ويذهبون أبعد من ذلك باتهام دعاة المثالية بالزيف والتصنع وادعاء ما لا يمكن تحقيقه في هذه الحياة.

وانعكاسا لهذين التوجهين نجد أشخاصا يدعون للتغيير والتطوير على مستوى العادات الشخصية والمهارات والسلوكيات المختلفة في الواقع البشري كالاجتماعية والتواصلية منها أو الوظيفية والمهنية أو المتعلقة بالهوايات والمهارات الفنية أو المندرجة ضمن المجالات المعرفية والعلمية، ويعتقدون بقدرة الإنسان على خلق تلك التغييرات وأنها ضرورية للبشر. في حين يرفض أشخاص آخرون تلك المساعي ويعتقدون بعدم واقعيتها وأنه لا يمكن على سبيل المثال تطبيق تعاليم التربية والتنشئة بالشكل التام، وكذلك من المستحيل أيضا التعامل مع الناس دائما بأساليب نموذجية ومدروسة وواعية كالتي نقرأها في قصص الأولياء والأنبياء أو بعض كتب تطوير الذات، ومنهم من يسخر من نصائح تنظيم وإدارة الوقت التي ينادي بها بعض المدربين والمؤلفين أمثال ستيفن كوفي وغيره.

وهكذا يأخذ الخلاف والصراع في التعمق والتفاوت بين الأفراد ليصل إلى التطرف في حالات. كأن نرى البعض يعيش أو يتظاهر بعيش حياة نموذجية مئة بالمئة خالية من الأخطاء بمزاج دائم السعادة والتفاؤل، فيضطر الكثير منهم للتصنع والتمثيل وأحيانا للكذب أو المكابرة والإصرار على الخطأ وتبريره فقط كي لا تهتز الصورة المثالية الوهمية!!. وبالمقابل نرى البعض مستسلما لرغباته وتقلبات مزاجه وظروفه الحياتية والاجتماعية استسلاما تاما بحجة الواقعية ورفض المثالية الزائفة، فلا يحرك ساكنا لتغيير حال أو لتحسين معيشة أو لرفع مهارات مهنية ووظيفية، فيسلم واقعه هكذا للظروف والنزعات والغرائز وكل شيء في الحياة ما عدا إرادته!!

في حين إن فكرة المثالية هذه تعني ببساطة أن هناك نموذجا أو رؤية معينة على الفرد السعي للوصول لها، وإنني ومن أجل الوقوف على جادة الوسطية في هذا النزاع، فعلي القول: إن التغيير ممكن وهناك دائما مجالا للإرادة الذاتية رغم كونه متفاوتا من شخص لآخر بحسب الظروف المختلفة، وإن الكمال مستحيل، وجميعنا مهما تكامل وتطور وتغير، يبقى معرضا للسقطات والهفوات والزلات المختلفة، وإن تحقيق هذا التصور أو الوصول له يُعتبر في صورته النهائية مشروع العمر، ولا يتوقع الشخص إنجازه في يوم وليلة لأن هذا التفكير ضيق الأفق قد يؤدي لليأس والانحراف للتطرف في أقصى اليسار المعارض للمثالية. كذلك ينبغي إدراك المستوى الحقيقي للذات في شتى المجالات المراد تعديلها أو تطويعها للنموذج المثالي وعدم توهم أن الإنجاز قد تم بالفعل لما لذلك من تداعيات خطيرة منها التظاهر ولبس أقنعة الفضيلة والكمال أمام الآخرين من دون أي مساع فعلية لنيلها على نحو الحقيقة.

وبالتالي فهي كأي رؤية أو استراتيجية في الحياة أو هدف بعيد المدى ويجب فيها مراعاة عدة أمور؛

أولا: ينبغي تحديد النموذج أو الرؤية بدقة وفق أسس ومعايير صحيحة.

ثانيا: يجب صياغة نموذج قابل للتحقق وفق الظروف الواقعية وعدم السعي للكمال المطلق أو الفضيلة المحضة.

ثالثا: المرونة وإجراء التعديلات في حال تبين أي خطأ أو تناقض في النموذج.

رابعا: بالإمكان صياغة أهداف منبثقة عن النموذج المراد الوصول إليه وتقسيمها إلى أهداف مرحلية.

خامسا: السعي الجاد والمثابرة من أجل تحقيق الأهداف.

وسأطيل المقال قليلا لمناقشة مسألة تحديد وصياغة النموذج صياغة صحيحة، لما لها من أهمية بالغة. إذ أن هذه العملية تختلف من شخص لآخر باختلاف الخلفيات الدينية والعقدية والثقافية والاجتماعية والأيديولوجية، ومدى وطريقة فهم وقراءة كل شخص لهذه العوامل المتعددة آنفة الذكر، وعليه فإن الإنسان إذا زادت ثقافته وزاد تعمقه واطلاعه وفهمه لشتى الجوانب المؤثرة على هويته ستزيد قدرته على التوصل لمستوى أصح وأدق وأفضل من صياغة النموذج وهو ما سينعكس بالإيجاب على سلامة مساعيه التي تهدف لتحقيق التغيير المنشود.

هذا وأتمنى أني وُفّقت لتقديم مادة مفيدة حقا، تضيف لقارئها وتساعده على ترتيب أفكاره ترتيبا صحيحا حيال هذه القضية بما ينعكس على واقعه العملي في مختلف شؤون الحياة.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 5
1
ياسين آل خليل
[ السعودية ]: 12 / 6 / 2020م - 12:59 م
الواقعي في نظري يختلف عن المثالي في أنه لا يهدف إلى الكمال ، بل إلى التحسين ، كما أنه يمكنه رؤية حدود المثل العليا دون الحاجة للتخلي عنها. أحسنت الطرح أستاذ محسن ، أحييك وأتطلع لقراءة المزيد من كتاباتك الموضوعية في المستقبل القريب وعلى منصة جهينة الإخبارية
2
حسين الشملاوي
[ القطيف ]: 13 / 6 / 2020م - 7:37 ص
مقال متقن وموضوع رائع. الحياة دائمة التحرك والتغير وحري بالمرء أن يتحرك أيضا في سبيل صورة أسمى ونموذج أرفع قابل للتحقق في ظل الواقع وظروفه. نتمنى أن نقرأ لك المزيد...
3
محمد الشبيب
[ السعودية- القطيف ]: 13 / 6 / 2020م - 3:22 م
العقل كالجسر يوصل بين المثالية والواقعية، وأيضًا هو كالميزان توزن به الأمور بشكل صحيح، مقال يضع خطة توائم بين ما يرد للإنسان من المثالية وما يعيشه في الواقع..
مقال موفق ومعتدل أستاذ محسن نتطلع إلى القادم
4
أحمد آل يوسف
[ القطيف ]: 14 / 6 / 2020م - 1:11 م
مقال رائع.

أجدت الإحاطة بالموضوع، وبيان المشكلة، ثم إيجاد حل.

نترقب المزيد من كتاباتك.
5
محسن المرهون
[ المملكة العربية السعودية / القطيف ]: 16 / 6 / 2020م - 11:46 م
الأخوة الأعزاء أشكر لكم هذا التفاعل الجميل والتعليقات المشجعة، وإن شاء الله ترون في الأيام القادمة ما هو أفضل
دمتم بود🌷
أخوكم محسن المرهون
باحث اجتماعي ومنشد