آخر تحديث: 26 / 12 / 2024م - 1:05 م

يوميات متقاطعة

أثير السادة *

قبل أن تفتح الباب صباحاً، ثمة شيء يهز لك كتفك، تلتفت إلى الوراء، فتتذكر مرادفات الحذر، قفاز، كمام، معقم، لا تحصي عدد المرات التي كنت فيها تفرك يديك خارج البيت، كانوا البارحة يدقون ناقوس الخطر، تحدث نفسك، الرسائل التي داهمت صمتك في المساء، الأرقام التي يجمع عندها الناس أنفاسهم، والوعيد الذي تركه المتسلقون على جدران الفضاءات الافتراضية، تربط فردة حذائك وتستذكر النصائح التي لا تنسى أن تذكرك كيف تمسك مقبض الباب، تحاصر مخيلتك وهي تلوح لك بالعصا، لتخرج من باب البيت لتدخل في باب الظنون والتهم والوشايات.

كأنها الصفحة ماقبل الأخيرة من صحيفة أيامك، تفردها بكلتا يديك وتبدأ بملء المعاني الناقصة، أنت الذي اعتدت ملأ المربعات الفارغة أفقيا وعموديا، تقف الآن على حدود الطرقات المتقاطعة، صار الكلام المكرور عبر قنوات الإعلام ومنصات الناس مجرد متشابهات كنت تكرهها في دروس الأمس، والمدن التي تقصدها صارت عواصم للمرض، شأنك الشخصي صار شأنا اجتماعيا بعد أن استحال ساحة للكلام، يتماثل للشفاء، ضد حي، جهاز لقياس الحرارة، صورة الكلمات المتقاطعة تحضر بكثافة في شريط مخيلتك، تبحث عن مرادف لرجل يحب الشمس، وعكس اختناق، وكلمة راحة معكوسة، يباغتك المذياع بآخر أخبار دولة أوربية، لا تدرك إلا أحرفها الأخيرة، توحش فيها المرض وقطع الطريق على حياة الكثيرين.

لا يخلو الطريق من السيارات التي أوقظها النهار، بعضها تحاول اللحاق بأعمالها، وبعضها الأخر تحاول الوصول إلى مراكز التسوق، الرسائل التي تنثر الملح على الجراح تهب الناس بعض الخوف وبعض الترقب، المغرد الذي لا يحسن إلا الضرب على لوحة المفاتيح مازال يضرب على مشاعر الناس، لذلك يهرب البعض سريعا لسرقة نسمة هواء مفقودة خارج البيت، ويركض آخرون للتبضع.. ارتباك، حيرة، دمعة طبيب لم يلتق أهله، تستعيد صورة الكلمات المتقاطعة وأنت تؤجل الإجابة عن بعض الهواجس المتكاثرة... ممثل كثير التحذير من عودة الحظر، ناشط يحذر الناس من الخروج ومن المشي ومن التسوق ومن الوقوف ومن الجلوس، صحفي يحمل رسالة يومية للناس من عزرائيل، وأبواب مفتوحة للناس تحت عنوان ”نعود بحذر“.

وباء لا يعرف له الناس علاجاً بعد.. مرضى يصعدون على مؤشر الإحصاء، ومناعة القطيع تندفع أفقيا كنهر لا يحول دون غرق البعض فيه، ومن كان يظن بأنه ذهب ليستريح عاد ليختار وجبته التالية، ينتصر الكثير من المرضى على أوجاعهم، ويهزم الخوف عدد آخر من الذين يرزحون تحت وطأة القيل والقال، ويهب الفضول البعض نوافذ للثرثرة على رؤوس الناس.. البعض ممن صاروا عناوين لتوتير الناس، لسرقة هدوئهم، من الذين يبحثون عن بطولة وطنية على هامش الكيبورد، من أولئك الذين كانوا عوارض جانبية لمرض كانوا هم أكثر وجوهه ألماً وقسوة.

درس طويل، الممارسون فيه للنصح ينبغي معالجتهم من أوهام الفهم وأوهام التأثير، درس لا يطيقه إلا المتصدون له، والمتعايشون معه، والهاربون من ثقل ظلاله، درس الأجساد الطليقة المقيدة، والعقول المنفتحة والمتنمرة في آن، والأصوات التي لا تشبه إلا المفرقعات، والجموع الصامتة، والأيادي البيضاء التي ترتعش خوفا على حياة الناس، والأصابع التي تمتطي على جراح الناس، درس الخسارات، خسارة الاعتدال، وخسارة التكاتف، وخسارة الوعي بأهمية حمل الناس على الحب والتعاون وتأجيل التلاوم والعتاب والبحث عن قرابين وضحايا للخصومات.