الولع بالقراءة
يعتبر الولع من أعلى درجات التعلق بالشيء بحيث أن المصاب به لا يرى سواه يدخل البهجة على قلبه. ولا يستثنى من هذه القاعدة الولع بالكتب حيث إنه قد يبدأ مع الإنسان في سن مبكرة يقوم خلالها الصبي الصغير بتجميع ما يحصل عليه من مال ليشتري به كتابا أحبه حارما نفسه ربما من وجبة ضرورية.
وقد تتشكل هذه الرغبة لدى البعض في سن كبيرة ينسى الإنسان معها كل أمر آخر ولا يرى سوى الكتب والقراءة. وفي هذه الحالة فإن الولع يتضخم معه بمرور الوقت حيث إن هذه الرغبة «في قانون القراءة» تراكمية، تتزايد حتى تصل إلى مرحلة الولع.
بل إن بعض المشهورين بالقراءة يتصورون أن للكتب أرواحا تموت عند هجرها وتنفخ فيها روح الحياة عند الاهتمام بها وتصفحها «يقول سارتر إن الكتب على الرفوف جثث ولا تصل إليها الروح إلا عند لمسها!».
وممن أولع بالقراءة في تاريخنا الجاحظ الذي مات تحت كتبه، وابن الجوزي الذي قال عن نفسه: وإني أخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب، فإذا رأيت كتاباً لم أقرأه، فكأنني وقعت على كنز، وكذلك الروائي الأسباني سرفانتس «صاحب رواية دون كيشوت والتي تعتبر علامة فارقة في عالم الروايات» حيث إنه كان يقرأ كل شيء يراه حتى قصاصات الورق في الشارع! ولأختي «رحمها الله» حفيد لم يبلغ الثامنة من عمره بعد لا يكاد يصادف أي كتابة في أي مكان أو ورقة ملقاة على الأرض أو نص في جهاز محمول أو حتى لوحة في شارع إلا وقرأها كاملة وبسرعة فائقة وإن لم يفهمها، بل إنه قد يكرر قراءة ما قرأه إن لم يجد شيئا آخر يقرؤه.. فهل هي دلالة على قارئ مولع في المستقبل؟
الولع بالكتب هو الذي دفع الروائي الإيطالي «إنريكو دي لوكا» للقول إن «أعمق فراغ رأيته في حياتي هو فراغ جدار كان يسند مكتبة».. وهو الذي كان يجعل شخصا كأبي إسحاق الموصلي يحمل معه في تنقلاته ثمانية عشر صندوقا من الكتب لكي يقرأها، ودفع نجيب محفوظ لتعلم اللغة الفرنسية حتى يستطيع قراءة أطول رواية في العالم بعدد كلمات فاقت المليون كلمة «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست بلغتها الأصلية، كما جعل أكثر ما آلمه حين ضعف بصره هو عدم قدرته على القراءة.
كم هو سام هذا النوع من الولع مقابل الولع بتوافه الأمور عند البعض والتي لا تقدم بل تؤخر في مسيرتنا التنموية ورسالتنا السامية في إعمار الأرض. فكم لدينا من مولع بالقراءة والكتب في زمن تعلو فيه بعض القيم البالية على حساب قيم القراءة والكتابة والمعرفة؟