ما يدركه المثقف
الانقسامات الاجتماعية تجاه ما يدور في الساحات من تجاذبات هو مظهر إنساني لا يجب تصويره على أنه بعبع إذا ما تشكلت المجتمعات وتنوعت في العمل المؤسساتي، وترك النزعة الفردية التي تؤدي عادة في الدخول بصراع إثبات الذات والتمحور حول الأنا والذي في الغالب لا تأتي بثمار مضنية للمجتمع وبالتالي سيؤثر سلبا على أفراد المجتمع.
ورغم أن أدوات البحث في الزمن المتأخر أصبحت ميسورة إلا أنها أوجدت ثغرة في تركيب المجتمع، فبدل أن يتحول المثقف إلى ضمير حي لمجتمعه وأمته بتحليه بالوعي الكافي في التعاطي مع القضايا المتاحة من خلال تحليه بمجموعة من الصفات والقيم التي تربي فيه نكران الذات والمصداقية والعمل الدؤوب على تحصيل المعارف المستجدة ليستطيع أن ينهض بمجتمعه.
فظاهرة بسيطة قد تتكرر كثيراً في مجتمعه إلا أنه لا يستطيع أن يصمد أمامها ويظهر عجزه العلمي لتقبل الآراء المختلفة وكأن الأصل في المجتمعات أن تكون على ظاهرة فكرية واحدة.
ومن خلال التجاذبات التي تنتجه بسبب مجموعة من العوامل العلمية لمتبنيات الفقهاء من جهة وضعف بعض الشخصيات المتصديين للهلال من حيث القدرة العلمية أو البيانية أنتجت صراعاً ربما تظهر بعض ثماره الإيجابية على المجتمع مستقبلاً.
فلنرجع لتلك الظاهرة ونتعامل بها بمنظور علمي بعيداً عن التشنجات لنلحظ أنها مسألة تخصصية علمية وهو الفخ الذي طالما يقع المثقف خلطاً بين الثقافة والعلم.
ولنتساءل لماذا عندما يحدث اختلافات عند الفلكين أو الأطباء لا تحصل تلك النفرة بينما نتعامل مع المسائل الخلافية بين الفقهاء بطابع الصدامات والويلات من المجتمع مع أن جميع العلوم تحتوي على اختلافات في الرؤى والنتائج تبعا للمقدمات فلماذا هذا التحسس المفرط؟؟؟
الأصل في اثبات الهلال معتمداً على الرؤية أو الشياع المورث للاطمئنان واشترط عدم وجود تعارض بين المدعين في المقام.
ورغم أن مسألة الحسابات الفلكية ليست بالأمر المستحدث بل لها تاريخ يعود إلى خمسة آلاف سنة على الأقل؛ والحسابة أشخاص معروفون وليس أمر طارئ كما يتصوره البعض، فكما في الرواية "عن محمد بن عيسى قال: كتب إليه أبو عمرو: اخبرني يا مولاي انه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان فلا نراه ونرى السماء ليست فيها علة فيفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قوم من الحساب قبلنا أنه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر وإفريقية والأندلس فهل يجوز يا مولاي ما قال الحساب في هذا الباب حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقع : لا تصومن الشك أفطر لرؤيته وصم لرؤيته.
وقد يطرح بعض المثقفين لماذا لا يعتمد على ظاهرة تولد الهلال كونه أمر مجمع عليه علمياً خلافاً لإمكانية الرؤية فالمسألة مختلف عليها بين علماء الفلك، فهل يعقل القول بالتولد كون القمر للكرة الأرضية هو واحد وبالتالي كيف تكون الوظيفة الشرعية لمن هم في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية إذا ما تود الهلال، أم أن هناك أكثر من تولد للقمر في دورته الشهرية وهو أمر محال لا قائل به أحد.
أما عن إمكانية الرؤية للهلال فهناك عوامل كثيرة منها صفاء الجو ونسبة الرطوبة وعمر الهلال، وقد يتفق الفلكيون بالإجماع في حالات الإثبات أو النفي بدرجة مائة في المئة وقد يتفقون في الإمكانية من عدمها تبعاً للتباين المحرج للمواصفات.
وبالتالي من الواضح أن النتيجة هي ليست قضية علمية واحدة بل هناك تفاوت في الرؤية بسبب العوامل من جهة وأنواع التلسكوبات وقدرة الفرد الرائي، فحيث أن بعض المراصد تشترط بالحد الأدنى ثلاثة عشة ساعة من الولادة والبعض يضيف عليها خمس وأربعين دقيقة وثالث يقول لابد من ستة عشر ساعة، فكيف يا ترى يعد ذلك أمراً قطعيا علميا، فما هو إلا نوع من التضني وهو المنهي عنه في الروايات، فعن محمد بن مسلم عن الامام الباقر أنه قال إذا رأيتم الهلال فصوموا واذا رأيتموه فافطروا وليس بالراي ولا بالتضني ولكن بالرؤية.
وهل نتصور أن هذه الأطروحات من حيث التولد والمكوث أمر غائب عن الله أو النبي والعترة الطاهرة ونحن المتأخرون توصلنا إليه وهو فتح عظيم ومعجز، فكون الولادة أمر مسلم به عن طريق الحسابة فلماذا لم يأمرنا به الشرع الشريف وأن علينا بعد الولادة حساب ساعات معينة أم يريد إمتهاننا وهو خلاف لرحمة الله بعباده ورحمة أهل البيت بنا والتي عمت الكون بأجمعه.
والخلاصة أن هناك معارف غابت عن ذهن المثقفين جعلت منهم يتصدون ويتصيدون الفرصة للخوض في أمر علمي، رغم أن هناك مسائل خلافية في كل علم ومنها مسألة الهلال التي يجب علينا أن نتعايش مع المسائل العلمية الخلافية.
وللعلم أن هناك مبحث جميل تطرق إليه الشهيد السعيد الصدر في رسالته العملية وهو التفريق بين الهلال التكويني ولهلال الشرعي يمكن مراجعته في محله وليجلى الكثير من الغموض الذي يبتلى به المثقف.