القرية المغشوشة
قبل اربعمائة عام، هجمت قوات البحرية الاوربية على بعض المناطق الأفريقية وعادت الى بلدانها ببواخر تحمل الاف الأسرى الأفارقة الذين استعبدتهم في بلدانها. قضى أغلب هؤلاء الأسرى أعمارهم عبيدا يعملون في الزراعة وصناعة النسيج وحفر الأنفاق في الامبراطورية البريطانية وغيرها.
يحكي الحكماء للعبرة أن أحد هؤلاء العبيد كان محظوظا فاشترته أسرة غنية محبة للعلم والعلماء وأهدته الى قسم علوم الطبيعة في جامعة كامبريدج المشهورة ببريطانيا. وصادف ان كان اسحق نيوتن قد التحق بالجامعة كأحد أساتذتها وكان مشغولا بأبحاثه في الضوء والجاذبية وقوانين الحركة الثلاثة. وهكذا عمل هذا العبد المسكين خادما مطيعا في هذا الجو المفعم بالحيوية والنشاط. فقرر أن يدرس أساسيات علوم الطبيعة في الجامعة بالإضافة الى عمله الدؤوب. وخلال سنتين من عمله ودراسته مبادىء العلوم البسيطة، عمل مع اسحاق نيوتن في مختبره وشاهد كيف أستطاع نيوتن أن يرسل الضوء الأبيض عبر المنشور لينتج ألوان الطيف في الجهة الأخرى. وشاهد أيضا كيف طور نيوتن تلسكوب غاليليو واستخدم فيه عدسات تعالج الزيغ اللوني فتعكس الأجرام السماوية بوضوح شديد.
ملأت تجارب المنشور والتلسكوب مخيلة هذا العبد المسكين وظن أنه لو عاد الى بلاده لحسبه أهله أنه أعلم العلماء وأنه قد بلغ الثريا في علوم الطبيعة وأسرارها. منذ ذلك الحين وهو يعد العدة للهرب والرجوع الى بلاده، وقد حمل معه نموذجا مبسطا للمنشور وآخر للتلسكوب. وكان يسهر الليل والحلم يداعبه أنه قد عاد الى بلاده وأجتمع الناس حوله يسألونه وهو يجيب بطلاقة عن علوم الطبيعة وأسرارها.
ذات يوم أستأذن من سيده في الجامعة وأنطلق الى ميناء برايتون في جنوب بريطانيا وقد نوى الهرب الى بلاده. وهكذا أحتال كأنه أحد عبيد السفينة فركبها مع مجموعة من التجار حتى وصل الى بلاده وفر هاربا الى قومه.
أحتفل به قومه في القرية وشاع فيها أنه قد رجع عالما مشهورا في الطبيعة وأسرارها. وفي خضم هذا الاحتفاء الكبير، فكر كيف يبني له سمعة أكبر ومكانة أعظم، فقرر أن يجمع من الفقراء المساكين مالا ليؤسس به مختبرا ومرصدا في القرية، فانبرى أهل القرية المساكين وباعوا مالديهم من مجوهرات ودفعوا المال اليه بكل فخر واعتزاز وقد أخذتهم نشوة الفرح به كخبير محلي، وظنوا أن قريتهم ستصبح قبلة العالم في علوم الطبيعة. وهكذا أقام هذا الغشاش المنشور في المختبر وشيد التلسكوب في المرصد ودعا الناس زرافات زرافات ليروا عجائب اختراعاته وعبقريته، وكان قد لبس ملابس علماء الطبيعة وقد تدلت النظارة من عينيه. وهكذا شاع صيته في الأمصار وجاءته الوفود للتبريك وتعلم ما حسبوا أنه آخر ما توصل اليه العلماء.
مرت السنون وهذا الغشاش لم يعرف من علم الفيزياء والطبيعة سوى المنشور والتلسكوب. لقد خسر هذا الغشاش كثيرا وخسرت معه القرية وأهلها. أما نيوتن العبقري فقد أكتشف بعد سنوات محدودة قانون الجاذبية العظيم وقوانين الحركة الثلاثة. ومع ذلك لم ينشر أبحاثه إلا بعد مراجعتها وتدقيقها من قبل العلماء الآخرين.
هكذا أنطلقت اوروبا في علوم الطبيعة، فجاء بعد نيوتن الكثيرون ومنهم اينشتين بنظريته النسبية وجاء بعده علماء فيزياء الكم وأسرارها العجيبة.
أما تلك القرية الفقيرة فبقيت مغشوشة بهذا الجاهل أعواما مديدة وفاتها قطار العلم والحضارة حتى بان مستوره وأنكشف أمره فطرده أهل القرية شر طردة، وهم يرددون: «رحم الله امرءا عرف قدر نفسه».