آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 9:31 م

التسامح زينة العقلاء

موسى الخضراوي

قال تعالى: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.

الآية واضحة الدلالة في أن الله تعالى خلق الإنسان في منتهى الكمال والجمال في جميع الصفات الخَلقية والخُلُقية على حد سواء، وتعالى الله أن يقول غير الحق أو أن يبالغ طرفة عين.

إنّ الإنسان نفسه هو من يفسد هذه الفطرة السليمة بتراكم الذنوب التي تشكل حاجزا منيعًا بينه وبين توفيقه للخير، ومن ثم بينه وبين الله من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم.

الناس بشكل عام خطاؤون غير أن منهم من يعودون إلى الله بعد الخطأ فيتوبون إليهِ توبة نصوحة، فيتقبلهم الله قبولاً حسناً بل ويحبهم ﴿إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

لذلك كانت مرحلة التوبة والطهارة من أجل مراتب الكمال التي تؤهلك للفردوس الأعلى في الجنة والعزة في عالم الدنيا.

لا أحد منّا إلا وقد حمل على ظهره ذنوبا تستوجب العقوبة غير أن رحمة الله غمرتنا فعشنا وكأننا لم نذنب.

ولولا رحمة الله بعباده وستره عليهم لأصبحت الفتن تنتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم «ولو تكاشفتم لما تدافنتم».

كل ذلك لا يعني تغليب الشر على الخير وخاصة في المجتمعات الإسلامية الأصيلة التي استقت تعاليمها من القرآن والسنة الشريفة وروايات آل محمد ودرست في جامعة الحسين الثقافية العامة.

مازال الخير هو السائد ومازالت الفضيلة والقيم السامية وأخلاق آل محمد تطغى على القلوب والأرواح.

غير أن الخطأ بين الناس وارد ولن ينتهي حتى يخرج قائم آل محمد فيملأ الدنيا قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.

ما أجمل الإنسان حين يتدبر أخطاءه فيتوب عنها دون رجعة ويدعو لنفسه وللمؤمنين بالصلاح والهداية، ما أجمل الإنسان حين يقف بين يدي الله منكسرا نادما معترفا، وأجمل منه من يدعو للآخرين الذين ظلموه بالهداية والصلاح وحسن العاقبة.

كم هو جميل أن يتحلى المرء المحمدي ببعض أخلاق آل محمد شكلًا ومضمونًا ليكون سفيرا ووليًا لهم بين الناس.

لا شك أن الدنيا مازالت ترفل بهذه القلوب الطاهرة التي لا تعرف غير الحب والجمال والسعادة والعفو والهدوء والأمان.

غير أن هناك أمرا يستحق منا وقفة تدبر وهو الحقد على الآخرين الذي ملأ القلوب فأحال ربواتها إلى شجرة غل تنشر شررها في كل مكان فتفسد النفس والأهل والبلاد والعباد.

إن هذه الأحقاد بنوعيها المبررة وغير المبررة - باستثناء ما تجاوز الخطوط الحمراء التي لا ينبغي التغاضي عنها وهي خارج المقال - وما أكثرها لن تجدي نفعًا في الدنيا ولا في الآخرة.

ولست مبالغا حين أقول: إني رأيت وتعاملت مع طيور الجنة في عالم الحياةِ، ورأيت سفراء الملائكة تمشي على الأرض؛ غير أن ذلك كله لا ينفي وجود شرائح يسيره لا تمثل هذه الطهارة والكمال.

حين يحقد الأخ على أخيه، والرحم على رحمه، والجار على جاره، والتاجر على منافسه، والعالم على نده؛ نصبح مجتمعًا شكليًا وجسدًا باليًا لا روح فيه ولا حياة وإن كنّا نتنفس الهواء الطلق.

لست أبحث عن البواعث الفعلية للحقد ولا عن علاجها فذاك بحث له مواضعُهُ، ودراساته، ومختصوه غير أني لن أغفلها تماما كذلك.

من بواعث الحقد الرئيسة المرأة، والأولاد، والسعة في الرزق، والنجاح، والإبداع، والغيرة، والفوارق في الملكات والمناصب والكفاءات، والمال، والإرث، وتوريث الضغائن، فضلًا عن التعدي والظلم والجور والغرور والتكبر على الآخرين وسواها.

ولكل باعث من البواعث ما يناسبها من طرق علاجية نافعة للفرد وللمجتمع في الدنيا والآخرة وهو أمر موكول لأهله وموجود في دراسات علم النفس وعلم الاجتماع المعاصر.

إن ما يعنيني في هذه الزاوية هو ما يقوم به بعض الذين وقعوا فرائس للحقد والغل والحسد من توريث للأحقاد ونشر لأكبر معول هدم اجتماعي بين الناس لأسباب لا يقبلها أحد قط.

كثيرٌ من النساء لوثن قلوب أبنائهن وبناتهن على أرحامهم من أعمام أو أخوال أو أبناء عمومة لأسباب تافهة، ورسمن صورة مزيفة للحقيقة وغرسنها بذورا لشجرة الزقوم التى نمت واعشوشبت ونثرت رؤوس الشياطين. ولا نستثني هذا الدور بكلياته وجزئياته عن عالم الرجال أيضا.

أتعجب من الذين يتناولون الناس في أخلاقهم، وأنسابهم، وعاداتهم، وأعراضهم صباح مساء وكأن ذلك جزءا من الفرائض المقدسة وهم روادها.

كما أن هناك من الناس من يحرك مشاعرهم الشيطان ويحرف بوصلتهم للجهة التي يحب بكل سهولة، فتجدهم أعداء لكل عمل اجتماعي أو إنساني، ويعتبرون كل قائم عليه هو محتال وسارق مهما بلغ من الكمال والشفافية، وذلك لموقف كان بينهما يوما ما أو لنظرة شخصية لا تجد لها مكانًا حتى عند الأبالسة.

أرحام تقطعت بها الصلة، وأصدقاء أبعدتهم الأقدار، وأحباب انقلبت مشاعرهم، وشركاء حملوا البغضاء بينهم فورّثوا من حولهم من أرحام وأقارب وأصدقاء هذه القبائح فسادت بينهم كما يسود الظلام عَلى بصر الأعمى.

هذا السم القاتل الذي ينفثه الحاقدون على من حولهم تجاه الناس لن يبقي منهم أحدا ولن يذرُ، وسيحيل حياتهم لهبًا من الجحيم ويحرمهم صفو الحياة ولذة العيش ويسبب لهم أمراضًا معنوية ومادية بلا حدود.

وعليه؛ فمن الواجب علينا أن نبتعد عن الحقد والحسد ابتعاد الصحيح عن الأجرب حتى وإن كان له ما يبرره في بعض الأحيان، وإن تعذر ذلك حفظناه في نفوسنا حتى لا نحرق به من نحب، وإن كان الأولى والأجمل هو تطهير القلوب وتنظيفها من كل هذه الأمراض وذلك بوضع القرآن وأخلاق محمد وآل محمد بديلا عنها، وترويض النفس شيئا فشيئا برياضات روحية خاصة موجودة في كتب الأخلاق المعنوية وماذاك على المرء ببعيد أبدا.

حين يسود العفو والصفح والطهارة تنتشر المحبة والفضيلة والسلام؛ وبالتالي ترتقي الأمم علمًا وسلوكًا وأخلاقًا وسعادة. ورد في الأثر «الغفران كالإيمان يجب أن تنعشه باستمرار». إن التسامح هدية لنفسك قبل أن تكون للآخرين ولا تكلفك شيئا.

إن نظرة عامة على رحمة الله وغفرانه لذنوب الناس تكفي لأن نقف موقفًا راسخًا صادقًا لنغفر ونصفح عن الآخرين وقد ورد في الأثر: «للعفو لذة ليست موجودة في الانتقام»، ومن المسلمات المأثورة أن التسامح زينة الفضائل.

من المعلوم أن التسامح يوفر اقتصاد القلب ونفقات الغضب وتكاليف الكراهية ويوفر البدائل الجميلة مجانًا.

وما مدرسة محمد وآل محمد التي حملت ألف شاهد وشهيد إلا الوجه الحقيقي للطهارة والنقاء عبر مسيرتهم. في عالمهم العديد العديد من المواقف التي غيّرت سلوك العدو وحولته إلى صديق توافقا مع إرادة السماء ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.

كم أتألّم حين أجد أحقادًا لو طار شررها لأهلكت أمما بأسرها حملتها قلوب صغار من أهاليهم تجاه أرحامهم نتيجة توريث ظالم وبغض مقيت ليس له من الحقيقة مكان وتجاه أفاضل كانوا سفراء للسماء حقيقة واعتبارًا.

أهل التقوى وأهل الصلاح هم أهل المغفرة فحسب، وهم الذين يبتعدون عن هذه الطرقات ابتعاد الظباء عن الضباع.

التسامح أحد أبواب الجنة الواسعة التي اتبعها أعقل الناس حين عذروا الناس وعرفوا أن الحياة قصيرة ولا تستحق أدنى العداوات.

إن كنّا راغبين حقا في أن يغفر الله لنا علينا أن نعد العدة لذلك بالتجاوز عن أخطاء الآخرين وغفرانها. قال تعالى: ﴿وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم وقال عز وجل: ﴿فمن عفا وأصلح فأجره على الله.

إنه الله يقدّم لنا صك غفرانه ودخول الجنه وأجرا بلا حساب تفضلًا منه ورحمة تقديرا لعفونا عن الناس فهل نحن مدركون لذلك بامتثالنا للتوجيه أم نعلم ونعمل بخلاف ذلك؟! فنكون من الذين ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.