العلاقات بين المد والجزر
أن يحمل البعض منا براءة الطفولة في حُبُهم ووُدّهم للآخرين، لدليلٌ لا يقبل القسمة على أن هذه الأنفس لم تُلَوثها جاهلية هذا العصر ولم تتأثر بقشوره التي لا وزن لها ولا قيمة. ما يؤلم حقًا، أن يكون هناك أُناس نكن لهم كل المحبة والود، ومع ذلك تفضحهم لغة أجسادهم ومشاعرهم الكاذبة عند أول وأبسط تداخل عفوي. بالعربي الفصيح، هؤلاء الناس، غرتهم الحياة الدنيا بغرورها فصاروا لا يرون إلا أنفسهم. هؤلاء للأسف لا يرغبون في بناء علاقات إلا مع من تتوافق أرواحهم وتتمازج خَلْقًا وخُلُقا..!
قُدرتك على تقييم مشاعر الآخرين تجاهك وبالمقابل مشاعرك تجاههم، يُمَكّنك من الوصول إلى جذور الحقيقة والتعرف على بواطن وخفايا ما يدور بالأنفس، والتنبؤ بماهيّة النوايا وما ستنتهي إليه. محاولة بعض الناس إخفاء مشاعرهم، قد يطول بعض الوقت، لكن من المستحيل طمس الحقيقة للأبد، فسرعان ما تسقط الأقنعة وينكشف الزيف وتظهر الوجوه بطابعها الأصلي. إذا ما أردنا أن نكون جادّين في بناء علاقات ناجحة، علينا أن نتخلى عن نرجسيتنا، وأن نكون صادقين ونزيهين من البداية.
طيبتنا العذرية كثيرا ما توقعنا في العديد من المَطبّات، ودون تفكير يُذكر، نعطي عاطفتنا للأشخاص الخطأ. الناس في علاقاتهم الإجتماعية لهم احتياجات متباينة، فهناك من يقدم احتياجاته أولاً ودون مواربة أو مجاملة لحاجات الغير. وآخرون كل ما يعنيهم في أي علاقة هي رؤيتهم الخاصة لبناء مستقبل يستمتعون فيه بالمكانة المجتمعية، والإحساس بأن لديهم مساحة أوسع من الحرية والشعور بالقوة التي توفرها لهم هذه العلاقات.
بوعي أو دون وعي، تُبْنَى بعض العلاقات على أُسُس غير نزيهة، يتخذها صانعوها كوسيلة أو فرصة للإنتقام من أحداث قديمة تسببت لهم في أذى، وإن كانت الضحية ليست لها علاقة البتة بأي من تلك الأحداث، إلا أن الناقم عادة ما يعمل في الظلام، وبعين واحدة وبصيرة مشوهة. من الطبيعي في ظروف كهذه أن تكون الصورة لدى الناقم غير مكتملة الوضوح وعلى هذا الأساس تخيب النوايا والأعمال.
أشكو إليك ولا يُلام إذا شكى العاني القيود
دهرًا بليدًا ماينيل وداده إلا بليد
ومَعَاشرًا مافيهمُ إن جئتهم غير الوعود
متفرجين وما التفرنج عندهم غير الجحود
لا يعرفون من الشجاعة غير ما عرف القرود
تأبى السماح طباعهم ما كل ذَا مال يجود
أسخاهُمُ بنَضَارهِ أقسى من الحَجَر الصَلُود
تعسُ امرئ لا يستفيدُ من الرجال ولا يُفيد
وأرى عديم النفع إنّ وجُوْدَهُ ضَرر الوجود
*إيليا أبو ماضي
في دهر بليد كالذي نعيشه هذه الأيام، العلاقات في مجملها تمر عبر مستويات من المد والجزر. قد نقضي أمَدًا طويلا في علاقتنا مع شخص ما، قبل أن نصل إلى مُواجهة أو تشكيك في النوايا. هذا وارد في زمن يتحرك فيه أصحاب الأنفس الواهنة تحت ضغوط أطنان من الوهم والظنون الكاذبة والنميمة والأنانية والتخيلات المريبة، علاوة على ترجَماتهم المغلوطة لمفهوم الطيبة والخُلُق الحسن على أنها ضرب من قبيل البلاهة والبلادة المثيرة للسُخْرية والضحك.
نحن نعيش في زمن يشهد صعودًا لا نظير له من تفشي العلاقات الفظة بين الأفراد وتباعدهم عن بعضهم البعض لأتفه الأسباب. هذا التصادم والتقاتل لا تحكمه الرغبة في البقاء، بقدر ما هو نضال مُسْتميت لإثبات الهوية وتعزيز الأهمية والتقدير والمعنى الوجودي للذات. لكن بربك، ألا يتطلب كل ذلك أن يكون الشخص حائزًا على الحد الأدنى من أدوات ومهارات فن التواصل، والأهم من ذلك تَمَلّكه لنية صادقة وهدفا نزيهًا لا تشوبه شائبة ولا تعيبه عائبة..!
كلٌ يُعَبّر بالطريقة التي يراها مناسبة، فأحيانا يخرج التعبير بَنّاءً، وأحيانًا أخرى يخرج مُدَمّرًا بقصد أو غير قصد. التسامح والعفو ومكارم الأخلاق تحولت جميعها إلى عُمْلة غير مُتداولة، وإن كانت قيمتها لا تزال عالية عند البعض. لسوء المنقلب، مكارم الأخلاق لم تعد تلك العملة التي تجد لها سوقًا للتبادل الحر والتي يمكن أن تَسّد بها رمق الجياع، أو أن تبتاع عُقْدًا من الذهب أو الماس عندما يريد الحبيب أن يزين به جِيْدَ فتاته في يوم فَرَحها. المال ومكارم الأخلاق وجهان لعملة واحدة، فإن تفارقا، فقد كل منهما قيمته ولباقته..!
يَمرُ بالقرب منا لا يُكلمُنا
وللحديث مَجالٌ وهو مِلْسَانُ
وإن نُكلمه لا يفقه مقالتنا
إلا كما يفقهُ التسبيح سكران
إذا تبسّم لا تبدو نواجذه
وإن بكى فله نزعٌ وإرْنَانُ
*إيليا أبو ماضي