السجدة القدسية
وتجرح عيون القلب ببكائها على أمير الحب لتستقبل الجرح العميق الذي حل في الملكوت لتستقبل الليالي العلوية. المليئة بالدموع. شهادةٌ مغايرة لكلِّ ما ألفناه، فمع كثرةِ المعاركِ التي شارك بها الإمام علي ، إلّا إن مشيئة الله تعالى اقتضت أنْ يسقط بمعركة، الكلُّ يخوضها، لكننا نغفل عنها، تلك هي معركة الصلاة، وأما الأرض فهي مسجد الكوفة وما أدراك ما مسجد الكوفه.
يا لها من ليلةٍ توضأت بالحزن وتسربلت بالألم، ليلةٌ في ساعاتها المقبلة دويُّ مصابٍ جلل يحار في وصفه القلم، فإمامنا علي يعتزم الرحيل في ليلةٍ من ليالي الصيام، سيبكي الكون كله فقد الإمام، وسترتشف جبهة الحقِّ غُصةً من غدر الشيطان، ويتنفسُ النفاق وينوحُ العرش والميزان، ستفلق هامة الأمير وتتخضب لحيته بدمائه وهي تنعى رحيل هذا الإنسان.
سيدي أبا الحسن، أربعة عشر قرنًا من أعمدةِ القرون بلحظاتها وأيامها وساعاتها، ذابت كما تذوبُ حبة الملح في وسط المحيط، ولما يذُب بعدُ حرفٌ من حروف اسمك الكبير.
فكلِ حرفٍ انزلق على شفتيك الطاهرتين يا أبا السبطين، يأبى أنْ يتقلص في زمانٍ أو مكان، ويبقى عصيًا على النسيان، مُصرًا أنْ يضيء دنيا الإنسان، لأنه يحمل عنك القيم والأنوار، واعتلاجات حقيقة الحياة وهي أبعدُ من أن يحصرها إطار، ”فزت ورب الكعبة“، آخر كلماتك في محراب الشهادة، تقول لنا: إن الموت للصالحين حياةٌ وولادة.
في السجدة القدسية سقط إلى جانبه كُلُّ حرفٍ من الإنسانية، وكأنّها سقطت القيم وكأنّها خروج آدم من الجنة بعد انتصار الباطل، وكأنّها ضربةٌ في قلبِ الوحي، تهدمت والله أركان الهدى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتِل علي المرتضى، قتلهُ أشقى الأشقياء..
سيدي، تُرى كيف انطفأت شعلة الحياة من قلبك الذي وهبَ للدنيا الحياة؟
كيف توارى النور من عينيك اللتين استعار النور منهما بهاءه فأضاء الحالكات؟
كيف ارتخت يداك التي ما فتأت تقبض على السيف والرغيف، لتقتل بالأول الجهل، وتوقد بالثاني في قلوب اليتامى والبؤساء الأمل.
مولاي هل هي النهاية القصية؟ أم هي البداية المتألقة البهية؟
لا والله، لا نراها إلا بداية المجد والخلود، والتحرر من وجع الدنيا وكلِّ القيود، ورحلة السعادة الأبدية بجوار المعبود.
سيدي، سلام عليك وأنت ترى الليلة التي وعِدتَ بها، فتنهض قاصدًا مسجد الكوفة لرؤيتها، تنزلُ إلى باحةِ دارك، فتستقبلك الإوز مرفرفات بأجنحتهن، بأصواتٍ عالية يصِحن، وكن من قبل لا يفعلن ما فعلن! وكأنهن بصياحهن، يُطلقن الاستغاثة، أو يحذرن من مجهول، فتُتمتم وتقول: صوائحُ تتبعها نوائح... وتمضي باتجاه الباب قاصدًا المحراب فيتعلق بمئزرك، وكأنّه يريد بقاءك، ويرفض خروجك خوف فراقك، فتشدّه وتمضي إلى مقصدك، وتقول بلغة الشوق إلى لقاء ربك: ”اللهم بارك لنا في الموت، اللهم بارك لنا في لقائك“.
وتدخل المسجد فتصعد المئذنة وتؤذن للمرة الأخيرة، فلا يبقى بيتٌ في الكوفة إلا اخترقه صوتك، ثم تنزل لتتفقد النائمين في المسجد المعظم، وتدعوهم للمثول بين يدي الرب الأعظم، ولما تصل إلى الشقي ابن ملجم، تراه نائمًا على وجهه، وقد أخفى سيفه تحت إزاره، فتقول له: يا هذا قم من نومك هذا؛ فإنّها نومةٌ يمقتها الله تعالى.
عجبًا لشمسِ عطائك يا علي، كيف تشرق على الفاجر والتقي؟!
عجبًا لقلبك يا كرار؟ كيف يفيض بالعطاء على الأخيار والاشرار.
وتخفُّ مسرعًا للقاء الله تعالى، فللمناجاة طعم لا يفقهه كل أحد، وللقاء الرحمن لذة لا تضاهيها أية لذة، وتستغرق في وصال المعشوق، وتشغل بلقائه عن المكان ومن فيه، وينتهز الشيطان الفرصة فيوسوس لأتباعه ومريديه، فيستجيب ابن ملجم ويعلن الطاعة لمن تولاه، ويحرك سيفه المشؤوم ليهوي به على من عفَر بحب الله تعالى الجباه.
وهويت في المحراب، وبدت جراحك عظيمةً، تعلن قرب الرحيل والغياب، وارتفعت أصوات البكاء وضج الناس بالعويل، فإمامُ القلوب يستعدُّ للرحيل الطويل.
تُحمَلُ جريحًا إلى منزلك، ويخيم الحزن والأسى على قلوب أهلك، ويأتي الطبيب، ويعمل جهده لإنقاذ الإمام الغريب، ولكن هيهات هيهات لقد استشرى السم، وها أنت طريحُ الفراش تعاني شدة الألم، تتهيأ للفراق، وتذرفُ من قلبك التواق، إلى لقاءِ الأطهار دموعَ الاشتياق، وتشتدُّ الآلام ساعةً بعد أخرى، وتنهمرُ الدموع من العيون حرّى، ويرتعشُ قلب زينب الكبرى، فتجلس إلى جنبك وتمتلئ لمرآك حسرة، وهي تراك بتلك الحالة المرة، وتصغي إليك وأنت تحدثها بما ينتظرها في قابل الأيام، وتعهد إليها بإكمال مسيرة أخيها ونصرة الإسلام.
وتفيض عينك وأنت ترى العباس ، ثم تغمضها بسلام، فتمتلئ الأرواح بالحسرات والآلام، وتتطلع العيون ليوم الظهور حيث ستعود مع الامام المنتظر حفيدك الموعود .
السلام عليك ياأمير المؤمنين ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين، السلام عليك ياباب الله، السلام عليك ياعين الله الناظره ويده الباسطة وأذانه الواعية وحكته البالفة.
وعظم الله أجوركم واجورنا.. ورزقنا الله في الدنيا زيارته وفي الآخرة شفاعته.