آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 8:43 ص

جائحة كورونا والإمتنان للوطن

حسين أحمد بزبوز *

بدأت جائحة كورونا كوباء محدود في الصين، بل قيل في البدايات أن المرض لا ينتقل بين البشر، فلم تكن جائحة إذاً، ولا وباء محدود حتى. وشيءً فشيءً، بدأت مدينة ووهان الصينية تطفو إلى السطح، فأصبح الكثيرون منا يعرفون مدينة لم يكن أكثرنا يعرفها من قبل. وتسارعت الأحداث، فطوقت المدينة بالإجراءات الصارمة، وأحرقت الجثث في الصين، في إجراءات وقائية ضرورية. وبين التحذير والتطمين في البلاد البعيدة، كان هناك وباء ينتشر في العالم، مخترقاً صمت الصين وحدودها، وخوف زعماء العالم من انتشار الرعب وسط الجماهير.

كل شيء كان يحدث بشكل متسارع، أمام مرأى ومسمع من يتابع ومن يحلل، ومن يمتلك قدراً من المعرفة التي تكشف ساحة العالم الواسع، التي باتت ملعباً متوقعاً للوباء.

في الضفة الأخرى من هذا العالم، بعيداً عن الصين، كان الكثيرون منا في سبات عميق عن وعي ما يحدث، وعن فهم عمق الحدث، وعن إدراك ما ستسوقه الأيام لهم ولبلادهم، لا محالة. مرات بسبب عدم متابعة أكثرنا لمعطيات الساحة الدولية ومتغيراتها، ومرات أخرى بسبب معوقات معرفية تعيق التحليل المنطقي، وأيضاً إضافة لما سبق مراتٍ، بسبب عاطفة الجمهور وقناعاته الخاطئة... الخ.

هنا مع كل هذا السكون والإطمئنان العارم، فإن كل صوت سيرتفع، ليقول أن هناك وباءً خطراً سينتشر من الصين إلى غيرها ليهدد صحة الناس وحياتها، ستقمعه غلبة الجمهور، وسطوة قناعاته وتخيلاته وعواطفه، مرةً. وستحطمه مرة أخرى، خطابات وبيانات غريبة خاطئة، لمتخصصين، لم يروا الوباء كما ينبغي أن يرى، عبر المنطق العلمي، الذي يفترض أنهم أول العارفين به جيداً، حتى في بواكير هذه الأزمة.

ربما يمكننا أن نقول، أن هؤلاء قد فضلوا تجميل الصورة وتهدئة الجماهير لغاية مطلوبة ومصالح مقصودة، فيها حكمة، خوفاً من إنتشار الذعر في الأوساط الشعبية. ولا شك أن الذعر عدو خطر، قد يدمر ما لا يدمره الوباء، إن حصل واجتاح الجماهير بعنف، ليدحرج أبناء المجتمع، ككرات الثلج المتدحرجة.

لكن بعض الخوف أحياناً مطلوب، والقليل منه نافع. فهو، رادع جيد لغلو الجماهير في الإطمئنان، ولتوغلها في مجاهل الخطر بلا مبالاة ولا فهم للواقع. ورغم ذلك تبقى وجهة النظر الأخرى، فالبعض قد يرى أننا أمام رعبٍ يجب أن لا يسمح له بالإنتشار، كي لا نقع في ما لا تحمد عقباه، وهي وجهة نظر لها ثقلها، إن كان هناك حقاً جمهور يخشى وباءً يتصوره مجرد وعكة صحية عابرة في الأعم الأغلب، لن تؤثر إلا على حالات خاصة من البشر. فهل نحن أمام رعب حقيقي، وفزع محتمل؟!.

ماذا لو قيل للجماهير حينها، أن هذا الوباء سينتشر بشكل مهول، وسيستمر بدل الأيام والأسابيع لشهور، وسيدخلنا في حجر صحي متعب نسجن فيه أنفسنا وعوائلنا في منازلنا إتقاء ذلك المرض، وأننا سنقاطع الأهل والأحبة وقاية لنا ولهم من كل سوء، وأن الكثير من المصالح والإحتياجات والأعمال ستتعطل، وربما غطى الوباء هذا العالم المعمور كاملاً، أو تجاوز لما بعد العمران، من براري وقفار، لا يقطنها إلا قلة من البشر، وأنه سيغزوا حتى السفن في أعماق البحار. وماذا لو قيل أن بعض دول العالم ستغص بالموتى وقد تنهار أنظمتها الصحية، وستكون هناك مفاضلات صعبة بين مريض وآخر، يقرر فيها الأطباء، أن يعيش أحد المرضى، وأن يسحب جهاز الإنعاش الرئوي من آخر.

في الحقيقة، هذا التصور، سيدفعنا لأن ندرك أن هناك حكمة أحياناً في التعامل مع الجماهير بالتطمينات، لأن الصدمة الأولى لدى الجمهور، قد تكون كالبارود، وقد تطلق شرارات فزع غير محسوبة، ربما تقود للفوضى العارمة.

ورغم هذا التصور لمخاطر فزع الجماهير، فإنني، لازلت أتساءل في صمت: هل ضخمنا رعب الجماهير من اجتياح الوباء؟ وهل لدينا واقعاً جماهير، هنا أو هناك، في هذا العالم تكترث كثيراً بنازلة وباء قبل أن تقع فعلاً في حدودها، وقبل أن يحل الوباء في الديار ويستفحل، بل قبل أن يقترب أكثر وأكثر من بيوت الناس، كاشفاً عن قرب خطره، فعلاً؟!.

دعونا هنا من هذا الجدل واسمحو لي، أن نعود لبدايات أزمنة الوباء، عندما كنا نسمع عن وباء ينتشر في الصين. حينها إستمرت الأعمال، وبقي السلوك الديني الجماهيري كما هو، فالناس تصلي الجماعات في مساجدها، وتذهب لزيارة الأماكن المقدسة، ولا يتوقع لشيء من ذلك أن يتوقف أبداً، بالإرادة الشعبية التلقائية، مهما حصل. لقد كان الكل ماضٍ في طقوسه الدينية في حينه، رغم ذلك الخطر، الذي لم يلمحه الكثيرون، رغم مؤشرات الوباء الأولية المقلقة، التي يمكن التقاطها، وإن حدث ما حدث عن بعد.

إذاً، فلا شيء، سيفسد على الناس طمأنينتها في محراب إيمانها وتضرعها، بل إن الإيمان والتضرع هو المفزع عند الجماهير في هكذا ظروف، رغم أن العمل بالأسباب واجب ديني عقلائي، ورغم أن القرائن كانت تكشف حجم الخطر وطبيعته باستمرار. وتلك القرائن واضحة تماماً لكل من يبحث ويقرأ ويحلل ويتدبر، بمنطق وبوعي، لكن من منا سيعي ويدرك؟! وبنسبة كم من كم؟!.

لقد ذهب الشيعة لزيارة المراقد الدينية المقدسة في حينه، حيث الإحتشاد الجماهيري المعروف، ولم يغيروا شيءً بفعل ظهور الوباء في الصين. والمعلوم أن كل الخطر في أزمنة الأوبئة يكمن في فعل الإحتشاد، وبالخصوص تلك الإحتشادات الجماهيرية العابرة للحدود.

وأياً كانت المبررات، فالحذر كان واجباً عقلاً وديناً ومنطقاً، فلا مجال لأن نبريء ممارساتنا الجماهيرية اللاواعية تلك، ولا تصوراتنا الخاطئة، ثم نلقي كل ذلك في رقبة الدين. وقد كشف التاريخ تلك السلوكيات الجماهيرية الخاطئة في أزمنة الأوبئة عبر الزمن، في وقائع متكررة، ولازال.

لقد سمع الناس بعض الأخبار، التي تكفي كنذير لما سيحصل لاحقاً. لكن، لم تعبأ الناس بما يحدث في الصين. وجاء شهر رجب، ليكمل زخم عواطفنا الدينية بالمزيد من رغبات الضراعة والإبتهال في الديار المقدسة، لينطلق هؤلاء المؤمنون أنفسهم، الذين كانوا يحتشدون عند المراقد المقدسة في الخارج في حينه، بطيبهم وطهرهم وعواطفهم، أو آخرون غيرهم ممن يشاطرونهم نفس العشق المقدس، لأداء العمرة وزيارة مكة المكرمة ومدينة الرسول ﷺ، في هذا الشهر الفضيل، كما اعتادوا سنوياً، كما إستمر إخواننا السنة أيضاً، في زيارة المدينتين المقدستين مكة والمدينة، لأداء العمرة والزيارة، في سلوك جماعي متشابه، وسط مجريات كارثة توشك أن تقع، أو هي قد بدأت تقع في الخفاء فعلاً، دون أن يعلم بذلك أحد، وكان الطبيعي أن نتوقع الحدث الوشيك، وأن يحدث ذلك، فعلاً.

هنا، بدأ القلق يدب في نفسي من سلوك الجماهير المتوقع اللامبالي، الذي يلقي الأسباب جانباً ويتكيء على عكازة إيمان خشبية مكسورة، لا تعكس الوعي الديني الأصيل، وزاد هذا القلق مع انطلاقة رحلة الوباء لغزو هذا العالم بوضوح صارخ، حين بدأ ظهور الحالات المرضية، خارج الحدود الصينية.

وكان المقلق حقاً، هو صعوبة مواجهة الحكومات، للعواطف الدينية العارمة الخاطئة، فذلك معيق حساس للإجراءات المنطقية الصحيحة. وكذا كان من المقلق أيضاً، ما انتشر وسط الكثيرين من الجماهير، أو ما حسبته أنا، من خلال القرائن التي ألاحظها، أنه كذلك. حيث كان ما أسمعه من حولي من الناس، ومن بعض المختصين الذين ينشرون أفكارهم للجمهور، يدفعني للإعتقاد أن الجميع تقريباً، إلا من رحم ربي، حتى بعض النخب المثقفة والمتعلمة أيضاً، قد أصابهم داء الإطمئنان والتطمين، في زمن الوباء الشرس العابر للقارات.

لقد ساعدت بعض الكفاءات المحلية، في رواج بعض التطمينات المفرطة، فبقي الناس في سدرهم، وانتشر الإعتقاد بأن هذا الوباء لا يعدو كونه نمطاً آخر من أنماط الإنفلونزا الموسمية، ولذا فيكفي الناس في التحرزات - بحسب هؤلاء -، أن تحترز من المرض، بغسل الأيدي وببعض الإحترازات الأخرى البسيطة المعتادة، كالعطاس في المناديل، كما تحترز الناس عادة من أي داء عابر بسيط، تنقله الأيدي أو ينقله بعض الرذاذ المتطاير في الهواء، كحالنا مع احترازات الإنفلونزا الموسمية المعروفة.

وهنا، وقعنا بين مصيبتين لا يخطئهما من يبصر، إحداهما سلوك ديني جماهيري عاطفي، لا يمت للدين الواقعي بصلة، لا يدرك الموقف بسبب طبيعة العاطفة الدينية الشعبية، حين يخطيء العبَّاد التصورات والهدف، ويضلون عن تشخيص ما يطلبه الله سبحانه منهم في مثل تلك الأزمنة. والأخرى تضليل غير متعمد ممن أخطؤوا تقييم الموقف، أو صياغة خطابهم الجماهيري التطميني كما ينبغي، في زمنٍ يستوجب الحذر والتحذير، والإنتباه والتنبيه، وإن رافق ذلك نوع من المداراة الحميدة. فإذا كان المشهد هكذا إذاً، في حينه، فأين إذاً المفر؟!.

هنا سيأتي سلوك الفرد طبعاً، ضمن سلوك الجماعة قهراً لا اختياراً، فالقارب يغرق كل ما فيه بسبب غلبة الجهل، وإن كان في القارب بعض الواعين المغلوبين على أمرهم.

وهنا كان الصراع، بين ما وعيته من خطر، وما أريد فعله احترازاً ووقاية، كفرد مسؤول، وبين ما يعيشه أغلبنا من اطمئنان، فكلما فكرت في حينه، في اتخاذ تدابير شخصية احترازية، وقائية واستباقية، يفرضها علي إدراكي وفهمي لما يجري، وجدت ذلك يتعارض مع معتركات الحياة الواقعية الأخرى التي أعيشها، فالحياة أصعب من أن نقرر بشكل فردي، وإن خالفنا التيارات الجارفة.

شيءٌ واحدٌ فقط، ساهم في إنتصار إرادة ورؤية العقل الفردي، على هيمنة الجماهير، وإرادة وقناعات الغالبية، في وقت مبكر نسبياً، هو وصول حالة وباء لأرض القطيف، واستنفار أجهزة الدولة لتطويق الوباء، بشكل سريع مباغت ولافت.

فكان منع الخروج من مدينة القطيف، هو ناقوس الخطر، الذي قرعته الدولة بحكمة ووعي لافتة، وهو أول دفعة معنوية، لمن لا يملك حيلة ليتخذ القرار، ممن يراقبون ويدركون خطورة ذلك المشهد كأفراد، من خلال القرار الرسمي، الذي يشكل الدفع العملي الملموس، فعزز ذلك بيئة اتخاذ القرارات الفردية الصحيحة.

فامتنعت وسط ترحيب العائلة الضيقة عن زيارات الأهل والأقرباء في الدائرة الأوسع، وقررنا البقاء في البيت في حجرنا الصحي الطوعي الإختياري، في وقت مبكر نسبياً، رغم استمرار وبقاء غالبية الجمهور على ما كانت عليه، من سلوك إجتماعي واطمئنان.

لقد بدأنا رحلة تقليص التواصل والإحتكاك، لكن بقيت ثغرات يخلقها الواقع، وبقيت مشكلة ومعضلة صعبة واحدة عالقة على الأقل، ستضل هي أكبر عقبة عالقة حتى تلك اللحظة في حينه، وهي التعامل مع الآخرين في بيئة العمل المكتظة، حيث معضلة احتشاد الكادر التعليمي والطلاب بأعدادهم الضخمة، وصعوبة التعامل في دائرة عمل كبيرة مزدحمة كهذه. وذلك طبعاً، قبل أيام من إيقاف الذهاب للأعمال رسمياً، بقرار من الدولة، والذي تم لاحقاً، في تدرجات محسوبة بوضوح.

مرت تلك المرحلة بسلام، ولازلت حتى اليوم أتذكر تلك النقاشات العابرة التي كنت آحاول خلالها تفنيد بعض القناعات الخاطئة التي تكونت لدى بعض الأصدقاء والزملاء، والتي مفادها أن «كورونا» أو «COVID - 19» كما عرف لاحقاً، مجرد انفلونزا سريعة الإنتشار ليس إلا، كما لازلت أتذكر أيضاً الموقف الحرج عند التفكير في الإمتناع عن المصافحة في تلك البيئة، وكذا الحرج في التعامل مع بعض الأحبة ممن يزورون الأماكن المقدسة المزدحمة، كمكة المكرمة والمدينة المنورة، في تلك الظروف التي لم تكن الناس بعد تكترث فيها بوباء كورونا.

لقد إتخذت حكومتنا الرشيدة تدابير سريعة حازمة، وأكاد أجزم، بل إنني أجزم واثقاً، أننا لو لا تدخل حكومة المملكة السريع والحازم والحكيم، لبقينا رهن سلوك القطيع اللا مبالي وغير الملتفت وغير المكترث وغير المنضبط، ضمن مخاضات متوقعة يعترم فيها جدل بيزنطي عقيم، لا ينتهي، حتى ينهي الوباء حبكة حكايته الأليمة بأصعب السيناريوهات، كما يفعل ذلك الوباء اليوم في بعض دول العالم الكبرى، منتزعاً فيها عشرات الآلاف من الأرواح بشكل متصاعد، لتكون أصوات العقلانية المغفلة والضعيفة والمهملة والمتهمة، في خضم تلك المعركة، جعجعة دون طحن.

فيا ترى، من كان منا، سيغلق المساجد، ويهجر صلاة الجماعة؟! وهو يرى أن التضرع هو الدواء؟!، ومن كان سيهجر العمرة، وزيارة الأماكن المقدسة، في داخل الوطن وخارجه؟! وهو يرى أننا بحاجة لهذا السلوك الديني في الأزمات، أكثر من حاجتنا له في أوقات الرخاء؟!، ومن كان سيهجر الأسواق المزدحمة، والكوفيهات المكتظة، والشواطيء البهيجة، والتجمعات العائلية السعيدة؟! والسفرات السياحية الممتعة... الخ؟! وهو مطمئن لمتع الحياة، ساعٍ خلف مباهجها باستمرار، بلا هوادة، غير مبصر بسبب الغفلة، أو قلة الوعي، طبيعة الخطر، المحدق به وبمن حوله.

أتحسبون أن سلوكنا دون قرار رسمي كان ليكون أفضل من ممارسات بعض العمالة السائبة، ومخالفوا الإقامة والأنظمة؟! وهل تظنون أن أصوات قلة من قليلي الوعي، المؤثرين في الجماهير، لن تنتصر، علينا جميعاً، حين تدغدغ العواطف الدينية ببعض العبارات المنمقة، وهل سننجح في كبح الرغبات المادية والميول الغريزية، ولن تنتصر تلك الغرائز والميول، على حجج جميع الواعين في المجتمع، أتظنون أننا سننتصر على من يسوق أفكاره الخاطئة، عبر استدلالات واهية لا تمت لا للدين الصحيح ولا للعقل والمنطق بصلة، وهل تشكون أنه كان هناك من سيطرحها فعلاً، كما طرحها آخرون هنا أو هناك لاحقاً، وسمعناها بعد المنع والتحرزات الرسمية كنكتة، أتت من وراء الحدود، لم تنم إلا عن سذاجة القائلين بها.

لا يمكنني طبعاً التعويل بصدق، على عواطف الجماهير وثقافتها وسلوكياتها. وواثقٌ أن عدداً قليلاً من قليلي الوعي ممن يرمزون ويحترمون، وعدداً قليلاً من المستهترين، وعدداً قليلاً من ضعيفي الإرادة، قادر على شل جميع الجهود الصحيحة. وبالتالي فهؤلاء، قادرون على نشر الوباء في طول المجتمع وعرضه. لكن الله سلم. ولو لا ذلك، لحدث ما يحدث، وما حدث في كل بلد تلكأت قيادته السياسية في الشرق أو في الغرب، فانتشر فيها الوباء، كانتشار النار في الهشيم، عابراً طول المجتمع وعرضه، وإن كان المجتمع مجتمع أكثر الأمم تحضراً، لينتشر الرعب، ويحصد المرض الأرواح، ويثقل الجراح، دون أن يحضر وعي المجتمع ليكون منقذاً.

لقد أثبتت القيادة السعودية، كفاءتها في قيادة الأزمة، واستبقت وعي وكفاءة الكثيرين في اتخاذ إجراءات صحيحة، وقدمت الإنسان على المال والمصالح الإقتصادية المؤقتة، رغم بهاظة التكلفة، ورغم الوجع الذي يمكن أن يصيب روح الإقتصاد. لكن القيادة، ببصيرة وحكمة وحنكة وحسابات واعية، أدركت قيمة الأنسان، ووعت صلابة اقتصاد الوطن. والأمل كبير جداً اليوم، وفي قادم الأيام، أن نتجاوز الأزمة بنجاح باهر، يخلده التاريخ، وتذكره أجيال الوطن، وبقية الأمم، رغم ثغرات سلوك الجماهير، ومخالفات البعض من القلة اللا مكترثة، أو اللاواعية، للأنظمة.

وبإذن الله، ستخفف القيود في النهاية تدريجياً، كلما كانت المعطيات مشجعة، وحسب حسابات منطقية، ووفقاً لحسابات تبنى على بيانات مرصودة، ووفقاً لمتطلبات كل مرحلة، ليتعافى الإقتصاد من جديد، وتبدأ الحياة فتعود الأمور تدريجياً لطبيعتها، ضمن حسابات وإجراءات تدرسها وتقررها الدولة، عبر لجانها وأجهزتها المتخصصة. وفي نهاية المطاف، ستنتهي هذه الجائحة عاجلاً أو آجلاً، ونحن نعلم أن البلد في أيدٍ أمينة.

نعم، الكل يدرك اليوم، بما لا يدع مجالاً للشك، حكمة ونجاح الحكومة في قيادة الأزمة. في حين كان الكثيرون في البدايات على الأغلب، مصدومون ومتفاجئون من حادثة كحادثة تطويق مدينة القطيف، مع أولى بوادر انتشار الوباء فيها. والكل اليوم بلا شك، ممتن لهذا الوطن ولقيادته وخبرائه، الذين كانوا على المنصة، فأداروا الأزمة بكفاءة ونضج ووعي.

من جهة أخرى، فإنني أدرك أن كثيراً من مزاعمنا ورهاناتنا كجمهور، والتي يفاخر بها بعضنا اليوم، والتي تحمل في فحواها، أننا نحمل الوعي، فحتى لو لم تفرض قرارات حكيمة، فإننا نحن الواعون والمثقفون أصحاب القرار والإرادة في مواجهة الجائحة، والإمتناع عن صلاة الجماعة والزيارات الإجتماعية والتسوق... الخ، ويمكننا أن نفاخر بهذا الوعي الجماهيري الفريد.

يأتي هذا التوهم سهلاً، بعد أن قررت الحكومة فحسمت الأمر، في حين نزعم وواقعنا يشهد خلاف مزاعمنا واقعاً، بأن ذلك لا يعدوا كونه مجرد توهمات تبعدنا عن معرفة الصواب في ظل الحقيقة الصارمة، الماثلة في كون قرار القيادة، هو أكثر العوامل الحاسمة فيما حصل وفيما يحصل حتى الآن، وأن لا رهان حقيقةً على وعي الجماهير حين يتطلب الأمر أغلاق أبواب المساجد، أو الإيقاف المؤقت لممارسات زيارات الأماكن المقدسة. ولا رهان على الشرائح العامة في إمتناعها عن متعها وتجمعاتها وترفيهها، مهما كانت نسبة الواعين بيننا.

فتلك الشرائح الإجتماعية الواعية غالباً ما تكون قليلة، وهذا هو الواقع الظاهر في حال مختلف الشعوب، كما يظهره الإعلام اليوم أمامنا على مختلف شاشات وصفحات وسائط المعرفة. فمهما تفاوتت نسب الواعين في المجتمعات، تبقى رافعة الوعي الجماهيري ضعيفة، ولا بد من قرارات رسمية صارمة وحكيمة.

لذا أجد نفسي اليوم، ممتناً كثيراً لهذا الوطن، داعياً الجميع للوقوف وقفات تأمل وشكر وتقدير وامتنان، نبني عليها وعينا لواقعنا، المبدد لفتن المفتنين والمفسدين، الذين يدمرون البلدان بوسوساتهم المفرقة لوحدة الكلمة، لنؤسس فوق ذلك الوعي، ما هو مقبل من فرص نهضتنا، فنحقق بتكاتفنا المبني على الثقة، رؤى واعدة لمستقبلنا المشرق، بعون الله.

كاتب سعودي «القطيف»