تقوية الممانعة وتفعيل الإرادة
الصوم في مضامينه دورة تكاملية تصنع الشخصية الإيمانية وتصوغها وفق القيم التي ترفع شأنه وتخلصه من ربقة الضعف وأغلال الأهواء، فمن علامات الشخصية القوية امتلاك الإرادة في اختيار القرار الملائم وفق المعايير العقلية بعيدا عن الانفعالات، ومدرسة الصوم إحدى السبل لتقوية الإرادة عند الإنسان بتحكيم عقله الواعي في الاختيار والامتماع، فالإمساك عن المفطرات طواعية وقت الصوم مع وجود المغريات خلال الشهر الكريم يجذر هذه الصفة الرائعة عنده؛ لينطلق في الحياة متسلحا بهذه السمة في مختلف جوانب حياته، فالإنسان المكبل بالإرادة الضعيفة لا يملك قرار نفسه ويتحكم بمسار حياته كل شهوة عارضة له، فمن سيطرت عليه الغرائز والأهواء أصبح عبدا ذليلا لها ولا يقوى على مواجهة هباتها، وحتى إذا تبين لعقله في ساعة صفاء ومضة خير انبرت لها أهواؤه وشتتتها وصرفته عن فعلها، فإنه لا يمتلك قوة تسعفه وتعينه على ذلك فتبقى حبرا على ورق الأمنيات، فكم من إنسان في ساعة المصارحة يبدي استياءه من سوء حاله ورغبته في التغيير الإيجابي، إلا أنه يجد نفسه عاجزا عن اتخاذ أي خطوة مبادرة وعملية على أرض الواقع، إذ تبقى تلك الأماني حبيسة خياله الذي يداعب مشاعره فقط.
ضبط النفس والقدرة على اتخاذ القرار المناسب لا يخالف الحرية مطلقا كما يتصور البعض، فالتخبط والاستجابة السريعة للنزوات وتكبيل الإرادة والرضوخ تحت نير المطامع هل يعد من الحرية بشيء؟
الحرية الحقيقية هي الركون إلى التفكير الرشيد في أي خطوة نقدم عليها والنظر في عواقبها وما تخلفه من نتائج، فإذا اخترنا طريقا رأينا الإنجاز فيه تحملنا مسئولية الخوض في غماره، وأبدينا من الإصرار والصمود في وجه المشاكل ما يجلي حقيقة إرادتنا القوية، وخير معين لنيل حرياتنا وكرامتنا هو الصوم المتمثل بكسر حاجز الشهوات والاستجابة لها في أي وقت، إذ الصوم ضبط اللذات وفق الإرادة الإلهية وعدم تجاوز الخطوط الحمراء لها «المفطرات».
ّو الهدف السامي من الصوم هو التدرج في مسلك الطاعة والتكامل وتحصيل ملكة الورع عن محارم الله تعالى، وهذه المجاهدة والمراقبة تحتاج إلى إرادة قوية في المحاسبة والمتابعة واليقظة من الوقوع في الخطايا، كما أن الطاعات والبرامج العبادية والروحية والتمسك بإتيانها والانسجام التفاعلي مع أجوائها يحتاج كذلك إلى إرادة قوية، إرادة تبدد كل ما يشغل الفكر ويسلبه الجاذبية والوعي من خلال تشتيته بالتذكر والتفكير في المشاغل الدنيوية، فبلا شك أن الكثير يرغب في الاتصاف بالاستقامة والخشية من الله تعالى ولكنه يغفل عن الأخذ بالأسباب، فيحول الرغبات إلى خطوات عملية يصر على الإتيان بها مستعينا بالصبر الذي يوفر له الصوم أرصية واسعة في تصرفاته.
كما أن الصوم بالمعنى الأخلاقي يشمل تحسين الخلق والاتصاف بزهور الصفات الحميدة والتخلي عن أشواك الرذائل والسلوكيات القبيحة، وهذا المسلك لا يتحقق بدون إرادة قوية تحارب الانفعالات المتفلتة والمشاعر السلبية «الكراهية» التي تسكن الفؤاد وتخربه، فروح التغافل عن الهفوات والتسامح والتعامل الحسن مع الغير يحتاج إلى تجذير في نفسه، وهنا يأتي الصوم كأحد روافده التي تدرب الإنسان على مقابلة الآخرين بابتسامته وأريحيته واحترامه للغير، مع تجنبه لكل حوار طائش وتصرف أهوج يقوده إلى المشاحنات والخصومات.