امريكا ومنظمة الصحة العالمية
دون النظر للخلافات الصينية الأمريكية، واتهام الرئيس الأمريكي ترامب للسلطات الصينية بعدم الشفافية في نشرها للمعلومات عن وباء كوفيد - 19، وعدم تزويد العالم بكل المعلومات التي بحوزتهم عن فيروس كورونا المستجد، وأيضا لاتهام منظمة الصحة العالمية بالانحياز للحكومة الصينية، الذي لم نشهد له حتى الآن تقديم أي دليل مادي يؤكدهذاالاتهام.
من غير الواضح ما إذا كان هذا ”الانحياز“ الذي يشير اليه الرئيس الأمريكي هو السبب في وصول فيروس كورونا إلى امريكا بهذه الصورة الدراماتيكية ام لا؟. إلا انه من المؤكد ان الإجراءات التي اتخذها الرئيس ترامب في بلاده حينما شخصت منظمة الصحة العالمية كوفيد - 19 كجائحة عالمية، لم تكن فاعلة أو كافية لا في التصدي لانتقال العدوى للأرض الأمريكية، ولا في التقليل من كثافة وحجم الإصابات، التي جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأولى عالميًا في عدد الإصابات والوفيات.
بالنسبة لي كمواطن سعودي، لا يمكنني تجاهل المقارنة بين موقف حكومة خادم الحرمين الشريفين وبين الموقف الأمريكي، أولًا في التبرع السخي الذي قدمته بلادنا لمنظمة الصحة العالمية دعما لها في هذه الفترة الحرجة التي تعيشها البشرية جمعاء في مواجهة هذا الوباء، وكذلك في التعاون معها بتبادل المعلومات عن هذا الفيروس وكيفية التصدي له، وثانياً في ما اتخذته الحكومة السعودية من إجراءات وقائية استباقية واحترازية منذ اكتشاف اول إصابة بالفيروس في الشهر الماضي، وبين موقف البيت الأبيض، ودول أوروبية أخرى
التي تعاملت مع الأخبار القادمة من الصين بنوع من اللامبالاة، وقللت من خطورة هذا الفيروس وقدرته في إلحاق الأذى بملايين البشر، وأن أضراره لا يمكن التنبؤ بمقدار قساوتها.
اننا حينما ننظر إلى وضع بلادنا في مواجهتها لهذا الفيروس الجديد، ينتابنا الفخر بما قامت به السلطات الصحية السعودية والكوادر والأطقم الصحية السعودية من عمل كبير وباحترافية عالية المستوى في مساعيها للحد من انتشار هذا الوباء، وفي العناية بالمصابين، وتوفير العناية الطبية الممكنة لهم، والتي أنتجت حتى الآن عن 931 حالة تعافي، وهي نسبة عالية مقارنة ببلدان أخرى كانت تسبقنا بمراحل في منظومتها الصحية «كما كانت تبدو». ولكن من الواضح الآن ان سياسات الخصخصة للقطاع الصحي التي جرت في هذه البلدان خلال الثلاثين سنة الماضية، وتقليص الصرف على القطاع الصحي الحكومي، حدت بشكل كبير في قدرات منظومتهم الصحية في مواجهة هذه الجائحة، وفي حماية ارواح الآلاف من مواطنيهم. وفي امريكا لا يمكن أغفال كيف ان تكلفة التأمين الطبي هناك تلعب دورا كبيرا في حرمان ملايين من المواطنين الأمريكيين من تلقي الحماية الصحية الكافية، وهذا يقع ضمن أسباب الوضع الصحي الكارثي الذي تعاني منه امريكا حالياً.
وبالعودة إلى موقف الرئيس الأمريكي من منظمة الصحة العالمية وقراره بالتوقف عن تمويل بلاده لهذه المنظمة لأنها لم تتجاوب مع اتهاماته للصين رغم كمية الأموال التي قدمتها امريكا لها، فهذا يأتي ضمن محاولات الرئيس الأمريكي في تبرير الوضع الصحي الصعب الذي تمر به بلاده الآن. ويبدو أن موقف مديرها العام تيدروس غيبريسوس في طلبه ابقاء مكافحة كورونا المستجدة بعيدا عن الخلافات السياسية بين الدول لتجنب الضغوطات التي مورست عليه، لم يلق الاستحسان من قبل الرئيس الأمريكي. وهو ما دفعه لاتخاذ هذا القرار، الذي لا يصب في توحيد جهود العالم للوصول إلى علاج مضمون لهذا المرض وسرعة اكتشاف لقاحا ً مضاداً له.
كل ذلك يشير إلى الموقف الاستعلائي والتسلطي للرئيس الاميركي في تعامله مع كل من لا يتفق معه، أو لا يقبل بما يريد. فما علينا الا نسترجع مواقفه المشابهة كالتوقف عن تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينين في الشرق الأدنى «الأونروا»، وكذلك قطع المعونات المالية عن السلطة الوطنية الفلسطينية لإجبارها عن التوقف عن دعم أسر الشهداء والاسرى الفلسطينيين. وتحت حجة انحياز منظمة اليونسكو ضد إسرائيل انسحبت امريكا من هذه المنظمة وتوقفت عن دعمها المالي، كما وانسحبت من اتفاقية المناخ العالمي لعدم قبول سيد البيت الأبيض بأهمية الحد من الاحتباس الحراري في الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض.
وفي اكثر من مناسبة كانت لغة التهديد بالانسحاب من المنظمات العالمية تطغي على خطابات الرئيس الأمريكي متى ما وجد من يخالفه أو يعارضه من بين الأعضاء الآخرين. فالمبدأ الذي يعتمده ويبني عليه سياساته هي ان امريكا أقوى دول العالم، وما ”دمت قويا فيجب أن يتم تنفيذ ما أقوله أنا فقط“. ولكن الأمور في عالم اليوم لا تشير إلى احتفاظ الولايات المتحدة الأمريكية بنفس القوة والصدارة التي كانت تنفرد بهما من قبل، وان بقاء العالم احادي القطبية لم يعد ممكنا مع تنامي قوة ومقدرات دول أخرى وفي مقدمتهم الصين، التي أضحت منافسا شديد المراس للولايات المتحدة الأمريكية.
كما ان الانفرادية واستهجان الغير جعلت حتى حلفاء امريكا ينتقدون أو حتى يعارضون بهذاالشكل أو ذاك مواقف حليفهم الأكبر. وما رد الفعل من العديد من دول العالم ومنظمات دولية واقليمية على قرار الرئيس الأمريكي بالتوقف عن تمويل منظمة الصحة العالمية الا خطوة في طريق إنهاء عالم القطب الواحد الذي تشكل بعد انحلال الاتحاد السوفيتي، وبداية لعالم مابعد الكورونا.