كيف تقهر الألم؟
من منّا لم يتجرع الألم، حتى وإن تفاوتت درجات الألم بين شخصٍ وآخر فإنه يبقى هناك ألم يعيشه المرء في حياته، والناس - من جهةٍ أخرى - يتفاوتون في قدرتهم على مواجهة الألم صغيراً كان أم كبيراً.
وصور الألم في حياتنا متعددة، فقد يتمثل في فقد عزيزٍ يمثّل للإنسان الحياة بأكملها، أو مرضٍ يقعد بالإنسان عن الحركة، أو خسارةٍ اقتصاديةٍ تفقده ثروته أو جزءً منها، أو ظلمٍ يقع عليه سواءً من الدائرة القريبة منه أو البعيدة، أو فشلٍ في جانب من جوانب الحياة التي تمثل له أولوية كُبرى؛ وهكذا تتنوّع وتتعدد صور الألم في الحياة.
وفي مواجهة الألم تتعدد أيضاً مواقف الناس وسلوكياتهم، فهناك من يستسلم للألم بحيث يكون الألم هو نهاية الطريق، فلا يرى سبيلاً للبقاء في الحياة، لتبدأ حياته بالتلاشي تدريجياً، فيفقد صحّته شيئاً فشيئاً إلى أن يصل به المطاف للارتحال عن هذه الدنيا وفي قلبه غصة من ذلك الألم الذي تجرعه في حياته.
ومن الناس من يقف في مواجهة مع الألم، فلا سبيل للاستلام أو الهزيمة مهما كان الألم عظيماً.
والسؤال المهم: كيف يمكنك أن تقهر الألم؟
هناك ثلاثة وسائل يمكنك من خلالها قهر الألم والسيطرة عليه:
كلما كان الإنسان أكثر وعياً بذاته، وبالمحيط من حوله، فإنه في مقابل أزماته الشخصية، والأزمات الخارجية، التي بطببعتها تُسبب ألماً عميقاً في نفسه بحسب قوّتها وشدّتها، يمكنه مواجهتها بقوة وإرادة فلا يسيطر عليه الألم، بل هو من يقهر الألم ويتغلّب عليه.
وفي الحياة نصادف أشكالاً متعددةً من البشر، وكلٌّ منهم يمتلك مستوى من الوعي بمقدار جهده واجتهاده وطاقته:
فمنهم من يمتلك وعياً بدائياً وهذا دون مستوى أن يعي ما يُحيط به من ظروفٍ وأزمات.
ومِن الناس مَن يعيش وعياً مقيّداً بما ألفه وورثه من محيطه العائلي والاجتماعي فهو لا يمتلك وعياً بإرادةٍ منه، وهذا الصنف يصعب التعامل معه فهو من جهةٍ ليس كسابقه من ذوي الوعي البدائي كي يمكنك أن تنسج له قصةً من الخيال فيصدّقها، وهو في نفس الوقت لم يعي حقيقة ذاته كما لا يمكنه إدارك حقيقة المحيط من حوله، رغم أنه يدّعي ذلك، وهنا تكمن صعوبة هذه الصنف من الناس. وكلّما مرّ عليَّ مثل هذا الصنف أذكر حديث رسول الله ﷺ حين يقول: ﴿نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم﴾. فليس أمامك تجاه هذا الصنف إلا أن تنسحب بأدنى قدر ممكن من المواجهة. كما أن هذا الصنف حين تقع عليه الأزمات تكون أشدّ عليه من غيره، لأنه لا يملك حولاً ولا قوة لذاته، وحين يتخلى عنه مَن يعتبره مصدر قوته فإن إيمانه يتزعزع بالكامل، وقد ينطق بالكفر حين تشتد عليه الأزمات.
ومِن الناس مَن يمتلك وعياً ذاتياً مصلحياً وهذا الصنف تكون مصالحه فوق كلّ الاعتبارات، فمتى كانت مصالحه في مأمنٍ تجد نفسه هادئة مطمئنة، وإذا تهددت مصالحه عاش الاضطراب والقلق. فهو لا يعبأ بدين ولا مجتمع، وكلّ ما يفكر به مصالحه الذاتية والشخصية.
ومِن الناس مَن يمتلك وعياً رسالياً يوجّه فكره نحو دوره في الحياة، ولا يقعد به عند الأزمات.
ومِن الناس مَن يمتلك وعياً ربّانياً فهو مؤمنٌ بأن كلَّ ما يجري في الحياة بأمر الله تعالى الذي بيده مقادير الأمور، فالأزمات إن لم تكن بلاءً يرتقي بها المؤمن درجاتٍ عند الله، فهي تكفير لذنبٍ، وتطهير للنفس، فتجده دائماً يردد في نفسه قول الباري جلَّ وعلا: ﴿قُل لَّن ىُصِىبَنَاۤ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَانَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡىَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾ ”التوبة؛ 51“.
فانظر لنفسك نظرة متأملٍ لتدرك حقيقة وعيك، وكن أميناً مع نفسك، فادعاؤك لمرتبةٍ راقيةٍ من الوعي لا يجدي نفعاً وأنت تقبع في مستوىً أدنى، بل إنك حينها تخدع نفسك فلا ترتقي في حياتك أبداً، وهذه رسالةٌ لك فكن على قدر تحمل الرسالة.
هناك مِن الناس مَن يمتلك ما يؤهله لأن يكون صاحب رسالةٍ في الحياة، يؤمن بها إيماناً راسخاً، ويبذل فيها جهده وطاقته وماله، سواءً كانت هذه الرسالة موجّهة لمحيطه الأسري الصغير، أو لبيئته الاجتماعية التي ينتمي إليها، أو للإنسانية جمعاء، فهو مؤمنٌ بأن له دورٌ في الحياة، وهو موجودٌ لهدف عظيم، وكلّ ما يجري له وما يجري من حوله إنما لصقل كفاءته وامتحان جدارته لتحمل هذا الدور والقيام به على أكمل وجه، ولذا فهو يستقبل الأزمات الذاتية والخارجية بوعيٍ أرقى، فلا تزعزعه تلك الأزمات عن دوره ورسالته في الحياة. نعم قد يتأثر بها بحكم إنسانيته لكن ذلك لا يدوم طويلاً، فلا معنى لديه للاستسلام أمام الأزمات والألم، ولا تضعف همّته عن أداء دوره ورسالته في الحياة، وتجده يتسلّح دائماً بقوله تعالى: ﴿ٱلَّذِىنَ ىُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ ٱللَّهِ وَىَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا ىَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّه وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِىبࣰا﴾ ”الأحزاب؛ 39“.
لا يمكن أن تسأل أحداً ولد في بيئة مؤمنة: هل إيمانك بالله عميقاً؟ ويجيبك: كلا!
الكل يعلن أن إيمانه بالله تعالى راسخٌ وعميق؛ ولكن متى يتجلى ذلك؟ يتجلى عند الألم، وعندها فقط يظهر عمق الإيمان بالله تعالى، من عدمه. فمن ينسلخ من دينه وتوحيده لله تعالى، ومن يستسلم للألم ليصبح وجوده وعدم وجوده في الحياة واحداً فهذا دليلٌ قطعي على أن إيمان مثل هؤلاء قد لا يتجاوز شفاههم التي تنطق به بين حينٍ وآخر.
ولكن من يسلّم الأمر لله تعالى، ويتوجه بقلبه له سبحانه، ويتوسّل بمن جعلهم الله تعالى باباً لدخول ساحة القداسة الإلهية وهم أهل بيت العصمة ، فيجعل من الألم تحدياً لمستقبلٍ أرقى، إن هذا الإنسان لا يمكن أن يتزعزع إيمانه ولا يمكن أن تهتز شخصيته ولا يمكن أن يستسلم للألم، بل تجده صامداً صابراً متأملاً عن سبيل للنجاة فهو يؤمن بأن التوكّل الحقيقي على الله تعالى مقرونٌ بالعمل.
نعم قد يخذلك القريب والبعيد، ولكن هناك من ينظر إليك بعين الرحمة والشفقة، فلتثق بربك سبحانه، فالذي قدّر لك هذا الألم وهذا البلاء قادرٌ على أن يقدّر لك تجاوزه، وذلك مشروطٌ بمدى استحقاقك لذلك. وكن على يقين أن عمق إيمانك بالحقّ سبحانه يتجلى بما يظهر عليك من سلوك، حينها فقط ينقذك الله تعالى من كلّ كربٍ وبلاء وألم؛ يقول تعالى: ﴿ٱلَّذِىنَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ ىَلۡبِسُوۤا۟ إِىمَانَهُم بِظُلۡمٍ أُو۟لَائكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ﴾ ”الأنعام؛ 82“.
بهذه الوسائل الثلاث يمكنك تجاوز أي ألمٍ وأي محنةٍ وأي بلاء تواجهه في حياتك؛ اللهم اكشف هذه الغمة عن هذه الأمة بحضوره، وعجّل لنا ظهوره، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، برحمتك يا أرحم الراحمين.