الإبحار في الذات
في منتصف شهر شعبان طائفة من طوائف المسلمين تعيش ذكرى ميلاد الإمام الأمل الموعود، وتكتسب هذه المناسبة أهمية كبرى لديها لما لها من صلة ببعد عقدي، يتمثل في نظرية الإمامة التي تشكل خصوصية لهذه الطائفة، حتى باتت يطلق عليها لقب الإمامية بسبب هذه الخصوصية.
في لحظة وحدة وعزلة عشتها في صومعتي «مكتبتي الخاصة» كأحد لوازم ظروف الحجر المنزلي الأساسية، ولست طالبا لها كجبران خليل جبران، إذ يقول: طلبتُ الوحدة لأن في الوحدة حياة للروح والفكر والقلب والجسد ، شكلتُ خارطة طريق لكتابة مقال يتعلق بالمناسبة ذي سمة عقدية فلسفية، يناقش مسألة جدلية بين الاتجاه الديني والاتجاه الحداثي، وهي العلاقة الجدلية بين الغيبة والعلم التجريبي. وفي لحظة إمساك للقلم إيذانا في الشروع ببدء الكتابة، قفز إلى ذهني تساؤل وهو: من أي موقع ستعالج وتقارب الموضوع، من داخل النص أو من خارجه؟ ففكرت ملياً وتساءلت في داخلي: هل بالإمكان من خلال مقال قصير أن أقوم بعملية تفكيك ما أمتلكه من مسبقات فكرية وخلفيات ثقافية ونمطية ذهنية تعبر عن ارتباطي ببيئة ذات سمات معينة عقديا، وما تؤول إليه النتائج البحثية؟ بالطبع ليس من السهولة بمكان، لكوني عنصرًا داخلياً في النص وليس خارجاً لا صلة له أيديولوجيا بالنص يٌنتَظَر منه الحياد، وأنا لا أخفي انتمائي لبيئة لها موقف عقدي في هذه القضية، فمن الطبيعي انعكاس الموقف الأيديولوجي على سيكولوجية الفرد وتوجيه سلوكه. هذا التساؤل حال دون معالجة هذا الموضوع العقدي وحرف بوصلة المقال إلى تساؤل فكري حارق، يتمثل في التالي: أنت أمام معادلة صعبة ثلاثية الأركان، واقع حاضر وإمام غائب والذات، فهل أبحرت في بحر ذاتك لترى مديات تأثيرك في هذه المعادلة ومدى التناغم والانسجام بين ذاتك والغيبة؟
نحن أمام معادلة ثلاثية، تحمل في طياتها عنصرين متحركين هما: الواقع الحاضر والذات، وعنصرًا ثابتًا يتمثل في الإمام الغائب، فماذا صنع العنصران المتحركان نحو العنصر الثابت ليحدث التغيير؟
الإجابة على مثل هذه التساؤلات لا ينتظر منها أن تكون محددةً ومشخصةً، بل هي من جنس الأسئلة ذات الإجابات المفتوحة، التي تتعدد بتعدد المتصدين للإجابة عليها، لاختلاف المكنونات المعرفية ومديات الارتباط العلائقي بين شبكات الوعي الداخلي والواقع الخارجي.
هنا نسأل: الذات التي هي العنصر المتحرك في التغيير، هل فكرتْ من موقع المسؤولية القيام بمواجهة فكرية مع نفسها في خضم الذكرى؟ هل أبحرت في أعماق بحر الذات لتكتشف مكنوناتها؟ هذه المناسبة العظيمة ليست كما يصورها البعض بأنها ناصفة فلكلورية وأهازيج وأناشيد ليس إلا، بل كل ذلك ما هو إلا عنصر تعبيري عن الفرح بقدومها، لكن ليس هو العنصر المقوم لقراءة هذه الليلة قراءة صحيحة. إن الاحتفالية الحقة تتمثل في البرنامج العبادي والروحي واستغلال هذه المناسبة باعتبارها فلسفة تأمل وبحث وتنقيب وحفر في دواخل ذواتنا لنندمج مع رؤى الإمام وتطلعاته.
وهذه الفلسفة التأملية القائمة على محاورة الذات إحدى ركائز العقلانية ونقد الذات لتعزيز مواطن القوة وتلافي مواطن الضعف.
وهنا نسأل مرة أخرى: من هي الذات التي تريد أن تتعلق بالإمام وتتفاعل مع رؤاه؟
هل هي الذات المزدوجة التي يتغاير مواقفها السلوكية مع متبنياتها المعرفية، أو الذات التي تعيش البلادة في الحس وانعدام المسؤولية، فلا تشعر بمشاعر الآخرين أو الذات المحاكية المقلدة، لا المنتجة الفاعلة، بل أقصى ما تقوم به إعادة إنتاج من اتخذته صنما من مفكر أو رجل دين ونحو ذلك، أو الذات التي لاتقيم للمنظومة الفقهية التشريعية والمنظومة الأخلاقية وزناً، وإن ادعت تعلقها بالإمام زيفاً، أو الذات الاتكالية التي لا تريد أن يكون لها معنى في هذه الحياة؟
بالطبع مثل هذه الذوات الموسومة بالخلل في أبعاد مختلفة من بنيتها، ديني أوفكري أو معرفي أو وجداني أو نفسي أو اجتماعي، غير قادرة على التفاعل مع فلسفة المهدوية وتطلعاتها، إن لم تعمل على تغيير ذاتها بعد اكتشافها وتفعيل
الحس النقدي لبناء ذات حالمة تعمل على تحويل الحلم إلى واقع، وتكون متفاعلةً مع أبرز سمات العصر وهو الانفجار المعلوماتي والمعرفي كمنتجة فاعلة لا كمستهلكة للمعرفة، وفي نفس الوقت متلهفة لطلعة الإمام البهية.
يبدو بعد هذا الإبحار التأملي تشكلت في أذهاننا بأن ما نردده بألسنتنا من دعاء تلهفي بطلعة الإمام البهية كما هو موجود في دعاء الندبة «هل إليك يا بن أحمد سبيل فتلقى، هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى، متى نرد مناهلك الروية فنروى، متى ننتفع من عذب مائك فقد طال الصدى، متى نغاديك ونراوحك فتقر منا عيوننا، متى ترانا ونراك.........» يتطلب معادلة إيمانية عملية فكرية تتشكل من: فكر يتبعه قول، وقول يتبعه عمل، وإلا بات دعاءً نأنس بمفرداته وبجرسها الموسيقي ليس إلا، وبالتالي لم نفعّل خارطة طريق لمستقبل واعد للإنسانية الطامحة والمتطلعة إلى الأمل الموعود بهذه الرؤية القشرية.