آخر تحديث: 6 / 12 / 2024م - 2:36 م

صناعة مستقبل الشرق

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

المعضلة التي عاناها العالم، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، مركّبة ومضاعفة لأنها غيّبت أمام الشعوب كل الخيارات، وفرضت هيمنة القطب الواحد

خلال الأيام القليلة الماضية، نشر هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، ومستشار نيكسون لشؤون الأمن القومي في ذلك الوقت، مقالاً في صحيفة «وول ستريت» أشار إلى سيادة نمط خاص من عدم اليقين في هذه الأيام، بسبب تفشي وباء كورونا. وشبّه ذلك بالمناخ الذي ساد أثناء الحرب العالمية الثانية.

لم يحدد كيسنجر شكل عالم ما بعد «كورونا»، واكتفى بتقديم ثلاث توصيات للإدارة الأمريكية: الأولى الاهتمام بالبحث العلمي، والثانية معالجة التبعات الاقتصادية للفيروس بعد القضاء عليه، والثالثة العمل على استعادة روح القيم الليبرالية. وهو بهذا يكرس اعتقاده في أن الغرب سيواصل هيمنته على السياسة الدولية.

في المقال المذكور بدا كيسنجر واعظاً أكثر منه محللاً سياسياً. ولم يتعرض إلى ما يجري الآن من اختلال في القيم التي بشّر بها الغرب، ولا إلى عجزه الفاضح عن مواجهة الوباء، وغياب التنسيق بين الدول الحليفة لمنع انتشاره. كما لم يلحظ تصدع المؤسسات الإقليمية والأممية الناظمة للعلاقات الدولية، ولا السلوك المريع لقيادات دول الاتحاد الأوروبي، تجاه بعضها بعضاً، والعودة إلى سلوك قطاع الطرق. كما لم يكشف عن الحاجة الملحة لإعادة تركيب المفاهيم الليبرالية بما يتسق مع العدالة الاجتماعية، وحق الأمم في تقرير المصير، والحرية، والكرامة الإنسانية.

ما يجري في العالم شيء مختلف تماماً عن تحليل ونظرة كيسنجر. والمستقبل ليس أحجية تحتاج إلى تفسير، وتأكيد. يكفي النظر إلى ما يجري من حولنا الآن في هذا العالم. باتت الصين تهيمن على أثمن مصادر الثروة، مصادر مواجهة «كورونا». ونحن في زمن باتت فيه تجارة الكمامات وأدوات التعقيم أهم بكثير من تجارة الألماس، والذهب. والصين وروسيا تتقدمان الركب في محاربة الوباء.

في حديثنا السابق، «عالم يتغير»، كانت ردود أفعال القراء إيجابية، ومتفاعلة مع التحليل الذي قدمناه، وهو استمرار لقراءة بدأنا بها منذ أكثر من عقد، أكدنا فيها أن العالم يتجه نحو تشكل جديد، وأن حقائق قوة جديدة قد بدأت بالبروز. وتركزت معظم التعليقات على مقالنا السابق، عن دور

الصين، وهل ستكون قوة هيمنة جديدة على العالم. بمعنى آخر، هل ستمارس القوة الجديدة روح القسر، والهيمنة، والابتزاز الذي مارسه الغرب لقرون عدة، تجاه شعوب العالم الثالث؟ وكيف سيكون شكل النظام الجديد، هل سيكون أكثر عدلاً بالنسبة إلى العرب؟

بدت الأسئلة افتراضية أكثر من اللازم، فالخلل الذي نتج في السابق، في العلاقة بين الغرب ومنطقتنا، سببه في الأساس يعود إلى اختلال في التنمية، وغياب التطور المتكافئ بين الأمم. وهو في جانب كبير منه، نتيجة لجم من القوى المهيمنة لتطلعات شعوب العالم الثالث في التطور، والنهوض. لكن ذلك في كل الأحوال لا يعفي هذه الشعوب من المسؤولية. هناك ركام هائل من الثقافة الراكدة، وسيطرة الصوت الواحد، والبنى الاجتماعية القديمة، حكمت ثقافتنا، وأنماط سلوكنا قروناً طويلة، لا بد من تجاوزها.

والمعضلة التي عاناها العالم، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، مركّبة، ومضاعفة، لأنها غيّبت أمام الشعوب كل الخيارات، وفرضت هيمنة القطب الواحد. وما سينتج مستقبلاً، وقد بدأت مؤشراته بالعودة للتعددية القطبية. صحيح أن الصين ستكون متفوقة اقتصادياً، وروسيا ستستأثر بالتفوق العسكري وتجارة السلاح، لكنهما لن تكونا وحدهما في الساحة الدولية. هناك توقعات كبيرة، بأن تلحق الهند بالصين في المجالين العلمي والاقتصادي. وصحيح أن أمريكا، والدول الأوروبية، ستتراجع، وينكفئ دورها، لكنها لن تغيب بالمطلق عن الساحة الدولية.

الجديد أمام دول العالم المقهور، هو أن البوابات سوف تفتح لخيارات عدة، وأن مطلب الندية، والمساواة، والعدل الاجتماعي، سيكون في القلب من شعارات المرحلة القادمة. وستكون عودة للأيديولوجيا، بصيغ أكثر إنسانية، ورحابة. والمهم في كل هذا هو كيف سيكون دورنا. هل سنكون على هامش التاريخ، رغم أن منطقتنا، كما هو ديدنها في القلب من كل التحولات، أم أننا سنكون شركاء في صناعة المستقبل؟ ذلك هو السؤال.