آخر تحديث: 28 / 11 / 2024م - 11:50 م

فكر بعد

محمد سليس

في غرف الدراسة ينتهي الطالب من تسطير جميع الإجابات على الأسئلة التي صبها الأستاذ على ورقة الامتحان، فيرفع الطالب يده ملوحاً بها إلى أستاذه وهو مليءٌ بالثقة بأنه أجاب على كل مفردة في الإمتحان. يأتي الأستاذ وينظر إلى ورقة الطالب ويعاينها سريعاً ثم يرفع رأسه ولا ينظر في عين الطالب قائلاً: «فَكر بعد».

الطالب: أستاذ، أنا انتهيت من الإجابة.

الأستاذ: وأنا أقول «فكر بعد»، لعلك نسيت شيئاً.

فيبدأ الطالب المسكين بالحيرة هل هي طريقة خداع نفسي من الأستاذ؟ ولكن أنا متأكد من إجاباتي كلها. ماذا لو كان صادقًا وقد نسيت شيئًا؟ إذًا فسأعيد النظر في ورقتي مرة أخرى لن أخسرَ شيئاً. بعد العودة السريعة للأسئلة والقفز بين كلمات الإجابة والاختيارات يرفع يده مرة أخرى وفي هذه المرة أكثر ثقة من سابقتها.

فينظر الأستاذ إلى الورقة مرة ثانية ويقول: قلت لك «فكر بعد».

الطالب: أستاذ أنا متأكد وهذه ورقتي.

تصدر النتيجة بعد أيام وينظر الطالب إلى ورقته يرى خطأً بسيطاً قد أفقده درجات ثلاث أو خمس لأنه لم ينتبه إلى شيء بسيط كان بإمكانه تفاديه لو أن الأستاذ أعطاه إشارة إلى أين ينظر أو قال له كيف يفكر بدلاً من «فكر بعد».

يكون العقل مشلولا بسبب من أسباب المشاعر المرتبطة بالحدث فلذلك تتعطل آلة التفكير السليمة. فمن الخطأ أن يقال «فكر بعد» لأن من تتعطل لديه آلة التفكير يكون كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة المسير إلا بُعداً. إذا سادت المشاعر - القلب - موقف أو حدث فإن المشاعر تعطل العقل وتأخذ مكانه فتكون هي الأمير والمدركات تحت خدمتها، خصوصاً إذا ارتبط باتخاذ قرار. فإذا كانت المشاعر إيجابية فالعين لا ترى إلا الجميل والأذن لا تسمع إلا موسيقى العصافير والأنف لا يشم إلا عطر الجنة والكف لا تحس إلا بالحرير والنعومة، والعكس بالعكس. وهذا ما قاله أمير المؤمنين : ”و كم من أسير في هوى أمير“

فالأمر والنصيحة «بالتفكير بعد» غير مجدي ومضيعة للوقت. وهنا يأتي دور الاستشاري الأمين ”صديقك من صَدَقك لا من صَدَّقك“، فدور الاستشاري أن يعيد نظره بطريقة عقلانية في الأمر ذاته أو يساعده على التفكير خارج الصندوق فيجب النظر في النتائج بعيدة المدى. والأحرى هو مساعدة الإنسان على إعادة التفكير بإعطائه أدوات وطريقة التفكير السليم. لا لعجز في صاحب الشأن لأنه قد يكون من أكثر الناس نصيباً في العلم وأكثرهم حكمة، لكن بعض المواقف تحتاج إلى أدوات مساعدة على التفكير. فمن طرق المعاونة على التفكير أن تطرح الأحداث المحتملة فإذا كانت الردود مرتبطة بالمشاعر مثل: الله كريم، الله يسهل، الله لا يضيع عباده، غيري مر بنفس الظروف، لست أنا الوحيد... فاعلم بأنه قد تعطلت لديه آلة التفكير. فيكون من الواجب إنقاذ من نحب من ظلم أنفسهم فالقرآن الكريم وصف الإنسان بعدة أوصاف ظلوماً وجهولاً وقتوراً.. إلخ

وبالمثل يكون دور الأب عندما يتقدم خاطب إلى كريمته ويطلب منها التفكير. وهو لا يرَ في هذا الزواج شيئاً مناسباً لمصلحتهما ولكنه - الأب - بحجة الشرع وأن الدين ترك الخيار للفتاة فهو لا يبدي رأيه فيكتفي بالقول «فكري بعد». يمتنع الأب عن إبداء رأيه في هذا الزواج مستنداً على الحديث المنسوب للرسول صلى الله عليه واله ”من جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه“ فيلتزم الصمت لأن الأب صاحب دين وعلى خلق.

لو نظرنا في نسبة الطلاق في العالم بشكل عام وفي المجتمعات المتدينة بشكل خاص نجد أن النسبة عالية، فهل نقول بأن المجتمع غير متدين؟ أو أن الشاب لم يكن على دين؟ أو نرجعه كما يعمل الكثير إلى النصيب وما كتبه يمين القدر؟ بالطبع لا، لأن المعادلة لها أبعاد أكثر من ذلك. فتدين الشاب وحسن خلقه هو الركيزة والمحور الأساس إذا انعدما عُدم الزواج وإذا وجدا لا يعني وجوب الزواج والقبول. فهنالك معطيات أخرى لابد من التأمل فيها وإبعاد النظر فيها. كثير من الأحيان عند التفكير وطلب إعادة التفكير ينظر الأب أو البنت في زاوية واحد ويهمل الكثير من الحقائق. فمنها إلى شهادته الجامعية وطموحه والمثابرة التي هو عليها، ماذا عن صلاته؟ ماذا عن سخاء يده؟ ماذا عن ضبط أعصابه؟ ماذا عن نظرته لمستقبله؟ قد لا تتوافق نظرته المستقبلية مع الفتاة مع توافقهما فيما سواها. أو لعل النظرة تكون للعائلة فهو من عائلة كريمة ومن أصل طيب. كون العائلة كريمة والأصل طيب لا يعني توافق الشاب والفتاة.

فلذلك، لا يمكن للأب أن يقول لبنته يا ابنتي «فكري بعد» فهي قد فكرت وحسمت أمرها وأنت لم تعاونها، بعد أن يضمر الأب ما يخشاه ولم يعرضه كفرضية محتملة من أحداث كي تعتبرها البنت طريقة للتفكير، فإنه يكذب نفسه ويعيش على وهم أنهما مناسبان لبعضهما. بعد أن يقع ما كان يخشى يطبق نظرية «الإدراك المتأخر» وترجع المشاعر السلبية.

أخيراً، أنا أقول أيضاً «فكر بعد» لكن فتش عن نفسك. أخرج من عالم القلب إلى عالم العقل وأبحث عن نفسك في هذا الطريق وأنظر إلى أين ينتهي بك؟ هل ينتهي بك إلى قلبك وترى الحب فيه؟ أم لا. فإذا لم تجد الحب فيه فابتعد عنه. وأقصد بالحب «الله» فكل طريق تركبه لابد أن يوصلك إلى الله وإلا ابتعد عنه. فكثير من الأحيان طغيان النفس هي من تقود النفس إلى الهوى، ومصالح الذات تسيطر على العقل فيكون مخدر. قال تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» البقرة: 216