الثقافة الإلكترونية
يوم بعد يوم، ومع مضي الوقت، تتكاثر أعداد الناس التي تغتني أحدث المنتجات التكنولوجية وتُدمِن على استعمالها، ولا تستغني عن التعامل معها، حتى أصبحت هذه المنتجات التكنولوجية الوسيلة الأكثر رواجاً وسهولة في نقل الثقافة وتلقيها والتعامل معها، والتفاعل مع مشاهدها، والتَّأثُر بمحتوياتها المختلفة والمتنوعة. فالملايين اليوم باتوا يستخدمون تكنولوجيا الأجهزة المحمولة، الجوالات والأجهزة اللوحية، كوسائط للمشاهدة وقراءة النصوص.
لقد كان الناس في أزمان سابقة تتلقى ثقافتها عبر الكتب، كونها المصدر الأول للثقافة. وكانت ترى فيها وسيلة الاتصال بالحضارات الأخرى، وبالآخرين في العالم الخارجي. أما اليوم فإن الأجيال الجديدة تستهويها مشاهدة الصور المنقولة عبر شاشات الأجهزة المحمولة، وليس لها صحبة مع الكتب، ولا تميل إلى قراءتها، ولا تعتبرها كنزاً ثميناً وقيِّماً. فقد استغنى الكثيرون عن القراءة وأكتفوا بالمشاهدة عبر وسائل الاتصال الحديثة التي تجذبهم وتستهويهم إلى درجة الإدمان الذي يصعب الفكاك منه.
إلا أن أخطر ما يمكن أن يتعرض له الإنسان من خلال هذا التلقي هو ما يُجبر على مشاهدته، ولا يكون له حق اختيار ما يتلقاه، من مشاهد، ومعلومات، وصور، حيث يُرغم على مشاهدة ومتابعة ما يتدفًّق عليه من سيل معلوماتي بشكل لا إرادي، فتسيطر على أحاسيسه، ويستسلم لها بالساعات الطوال، ولا يكاد يرى أو يحس بما حوله من حركة وأحداث، وكأنه في غيبوبة تحت تأثير سحر المرئيات، ومغريات الصورة.
وحسب رأي ”مصطفى حجازي“ فإن العالم اليوم محكوم ومحاصر من خلال مشروع التنميط الثقافي الكوني، والذي تشكل الثقافة الإلكترونية وقوتها التكنولوجية حالتها الجديدة. مضيفاً ”بأن ثقافة الصورة والبلاغة الإلكترونية تلف الكون من خلال تغطيته بشبكاتها المتعاظمة، خالقة فرصاً معرفية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وواضعة العالم بين يدي المُستقبلين. إلا أنها تحمل تحديات متعاظمة بقدر قوتها التكنولوجية وتغطيتها الشمولية من خلال الخيارات التي تروج لها. وهي خيارات تتقنع بقناع البراءة والتسلية والإمتاع والإخبار. وهي ثقافة تتوسل لغة جديدة، وأبجدية جديدة، هما لغة الصورة، وأبجدية الحواس، مما يكاد يشكل قطيعة فعلية مع الثقافة المكتوبة وعقلانيتها“. «1»
وغني عن القول بأن الثقافة المكتوبة كانت المصدر الرئيس الذي استقت منه الأجيال السابقة جُل ثقافتها. غير أن جُل ثقافة الأجيال الجديدة اليوم مستقاه من مصادر ثقافة الصورة، خصوصاً الصور الإلكترونية المحمولة عبر أجهزة الاتصال والتواصل الحديثة، حيث أصبحت هي المرجعية الثقافية الأساسية للأجيال الناشئة، وكأن الأمر تحول إلى حالة صراع، أو تنافس، بين الثقافة المكتوبة وثقافة الصورة الإلكترونية، خصوصاً عندما تفتقد الثقافة المكتوبة دورها التي كانت تجده في الماضي، بسيطرة وهيمنة التقنيات الحديثة ووسائلها الإعلامية، وقيامها بأدوار ثقافية استهلاكية ثانوية نيابة عن الثقافة المكتوبة ووسائلها التقليدية المعروفة، من كتب، وصحف، ومجلات.
لقد أصبحت مسألة تلقي الثقافة عبر وسائل تكنولوجيا الاتصال والتواصل الحديثة حتمية تكنولوجية متعاظمة في القوة والفعل والانتشار والتأثير، وتحولت إلى أن تكون أمراً اعتيادياً، ومن البديهيات المسلم بها، والخارجة عن إمكانية حجرها، أو حجبها، أو حظر تداولها. غير أن المهم في المسألة هو وعي الإنسان المتلقي، إذ أن مسؤوليته تقتضي تقييم ما تحمله هذه التكنولوجيا من ثقافة، وما تحويه من جودة في مضمونها، فربما تكون هذه الثقافة ذات قيمة ثقافية عالية الجودة، وربما تكون ثقافة نمطية سطحية القيمة والمستوى.