الفردانية والجماعوية
العالم بأسره يواجه عدواً شرساً لا يرى بالعين المجردة، ألا وهو فيروس كورونا، استنفدت جميع الدول كل طاقاتها في سبيل مواجهته. وهذا الفيروس كما استنفر عالم المختبر والمختص في الوقاية والأوبئة في مواجهته استنفر الاقتصادي والسياسي ورجل الفكر والثقافة والمعرفة والأخلاق لدراسة تداعياته وانعكاساته.
في ضوء ما يعيشه هذا العالم مع هذا المعطى كتحد للإنسانية برمتها، فعلى أي رهان فكري وأخلاقي سيستند العالم في مواجهته؟ هل سيكون رهانه على الفردانية سواء كانت سارترية أو فيبرية منهجية، التي تعتبر الدفاع عن مصالح الفرد فوق كل اعتبار، ولا مرجعية إلا مرجعية الإنسان، ولا تتحقق هذه المرجعية إلا من خلال الحرية الثلاثية المطلقة، وهي: حرية العقل والإرادة والجسد. وهذه الحرية اللامحدودة والتي يتمتع بها الفرد، تجعل عيناه في حالة رمد تمنعه عن رؤية الآخر. أم الجماعوية، التي ترى الفرد لا قيمة له إلا بانصهاره في بوتقة الجماعة، وهو محكوم في سلوكه وتطلعاته وآماله وأهدافه بالقيم والمفردات التي تمليها الجماعة المنتمي إليها عليه، أي سحق لمفاهيم فطرية كامنة في الإنسان كحرية العقل والإرادة، حيث يتحرك بوحي من العقل الجمعي بوعي أو دون وعي، وبإرادة مؤطرة بأطر الجماعة، من دين وعادات وأعراف وقيم، وبصياغة أخرى: البوصلة الموجهة للفرد في سلوكياته ليست العقل والإرادة، بل معايير مجتمعات العار. فما يعتبره المجتمع عاراً ينأى عنه ولو كان خلاف قناعاته وإرادته والعقلانية، والعكس صحيح. وهذا واضح في فلسفة بيرنارد ستيجلر، إذ يقول: «الأنا كفرد إنساني، لا يمكن التفكير بها سوى عن طريق علاقتها ب نحن، والتي هي مجموعة من الأفراد، لقد تشكلت الأنا في تكيفها مع التقاليد الاجتماعية، والذي تتم وراثتها ويعترف جموع الأنا ببعضهم البعض».
ونسأل مرة أخرى، في خضم هذه الأزمة القائمة، هل نحن بحاجة إلى أن نستورد مقولة الفردانية أو مقولة الجماعوية، لجعل إحداهما قاعدة فكرية معرفية نراهن عليها في هذه المعركة، توجه سلوكنا وتعمل على بناء المحددات لمنظومتنا الأخلاقية، وتؤثر في ذواتنا من زاوية الدافعية والحافزية نحو تحمل المسؤولية في هذا الموقف العصيب، رغم امتلاكنا إلى مرجعية معيارية قيمية تتسم هويتها بالقداسة، لها حضور قوي في وعي الإنسان الشرقي، ألا وهي مرجعية الدين والأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية؟
في بنائنا المعرفي والفكري لا يمكننا أن نتجاهل هاتين المقولتين، ولكن من خلال العمل على تبيئتهما، لا استنساخهما بعلاتهما وسلبياتهما. وفي هذا الصدد تقول الدكتورة ندى أبي عاد: «حداثتنا تفرزها ذهنيتنا وتتمخض عنها ثقافتنا عربية هي، تشبهنا ولا نستنسخها». انتهى
فدنيننا مع سلطة المجتمع وسيادة الذات، إذ يعتبر الفرد كائناً فاعلاً مريداً، يستطيع أن يخلق معنى في محيطه الضيق أو في الأفق الواسع الإنساني، كالعمل على الحؤول على انتشار هذه الجائحة، أو الوصول إلى العلاج الناجع، ولكن يقيده بشرط البعد عن الأنانية الأخلاقية التي تتعارض مع الإيثار، ولا ترى لحياة الآخرين قيمة مادامت لا تحقق منفعة ذاتية للفرد في المنظور القريب أو البعيد.
وكما مصالح الفرد التي لا تتعارض مع الصالح العام محط احترام الدين، كذلك مصالح الجماعة والمجتمع حاضرة في الأدبيات الدينية بشرط عدم سحقها للفرد والوقوف حجر عثرة أمام مواهبه وقابلياته. فالتوازن بين الفرد والمجتمع هو الحاضر في منظومتنا الدينية. وهذا التوازن يفضي إلى تبني موقف مضاد للأنانية الأخلاقية، وذلك بطرح البديل عنها وهو المتمثل في الأخلاقية النفعية، التي معيارها مدى مساهمة عطاء الفرد وأفعاله وجهوده ومواهبه في الصالح العام، وعدم إغفال تقدير مساهمته وجهده من الناحية المادية والمعنوية.
وأخيرًا لابد أن أعرج على منطقتنا بما لها من مماسة في هذا الموضوع. نحمد الله كثيرًا بأن مازالت نفوس أبناء منطقتنا مجبولة على فعل الخير، ولذا نجد أن المبادرات التي أطلقتها الجمعيات الخيرية لمساعدة المتضررين في هذا الظرف الطارئ، لها صداها وموضع تفاعل وترحيب وإشادة، فلنعمل جميعا على إنجاحها، كل بحسبه واستطاعته. لنصبح مصداقا حقيقيا لما يروى عن الإمام الرضا : «أحسن الناس معاشا من حَسُن معاش غيره في معاشه، وأسوأ الناس معاشا من لم يعش غيره في معاشه». وبهذا نكون قد جسدنا الفلسفة الأخلاقية النفعية البعيدة عن الأنا الأخلاقية النرجسية، وخلقنا موازنة بين الفرد والجماعة.