المحتوى المعلوماتي على الإنترنت بين الغث والسمين
هناك من يشكك في دقة الإحصائيات والتحليلات التي تتحدث عن تراجع معدلات القراءة في مجتمعاتنا العربية مقارنة بغيرها من المجتمعات الأوروبية والآسيوية، أو هو غير مقتنع بها، ويتحفظ على مثل تلك الأقاويل. ويضيف بأن الأمر ليس على هذه الدرجة من السوداوية، أو على الأقل ليس وفق هذه الدرجة من الهوة والفرق الشاسع في معدلات القراءة مع الأمم الأخرى.
كما يشير هؤلاء إلى وجود تطور في المجال المعرفي في المجتمعات العربية نتيجة التقدم الحاصل في مجال تقنية الاتصال والمعلومات، وأن الفرص الكبيرة والواسعة المتاحة اليوم للجميع للتواصل مع مصادر المعرفة والمعلومات من خلال الإنترنت مؤشر، أو دليل، على أن هناك تحسن في مستوى الاطلاع والمعرفة والثقافة والوعي، وخصوصاً عند الأجيال الشابة.
غير أن هناك من له رأي مختلف، متسائلاً عما يتم متابعته وقراءته من خلال شبكة الإنترنت؟ وما هو مقدار المحتوى والمضمون والنضج الثقافي الجاد الذي يتلقاه الفرد مع هذا السيل الهائل من التدفق المعلوماتي الذي يشبه الطوفان المنهمر؟ ويشيرون إلى ضعف المحتوى الثقافي العربي على الإنترنت، مع رواج الكثير مما لا يمت إلى الثقافة الجادة بصلة، خصوصاً بعد أن اختلفت طريقة التلقي في هذا الزمن، من الإقبال على النص والكلمة، إلى الصوت والصورة، والاتجاه إلى الفضائيات والإنترنت كمصدر أساسي للتلقي.
فالأجيال الجديدة من الصغار والشباب كما يؤكد هؤلاء يبددون أوقاتهم أمام شاشات الكومبيوتر، ليس في البحث عن المعلومات والاطلاع، وتنمية معارفهم ومواهبهم، بل غالباً من أجل اللعب والتسلية والترفيه والثرثرة، أو متابعة المنافسات الكروية. أما مكونات الثقافة الحية، مثل الآداب والفنون الراقية والفكر، فما زالت بعيدة عن اهتماماتهم، والتي يغلب عليها الاهتمام بالألعاب الرياضية ومسابقاتها المختلفة.
فإذا كان الناس عبر الأزمان السابقة تعتبر الكتب مصدر المعرفة الأول، وتستمتع بقراءتها، فإن الأجيال الجديدة في هذا العصر تستهويهم الصورة. فالزمن اليوم يسمى زمن ثقافة الصورة، حيث استغنى الكثيرون عن القراءة، وأكتفوا بثقافة المشاهدة، سواء كان ذلك عبر الفضائيات، أو عبر شبكة الإنترنت، حيث تستقطب قنوات الفيديو، وحسابات اليوتيوب، على نسبة إقبال ومشاهدة مرتفعة للغاية في المجتمعات العربية.
لا شك بأن التقدم التكنولوجي في وسائل الاتصال وأجهزتها الحديثة، وتطور شبكة الإنترنت، والثورة المعلوماتية الهائلة التي نشهدها اليوم، أتاحت للإنسان الحصول على مقادير هائلة من المعارف والمعلومات الضرورية بيسر وسهولة بالقياس لما كانت عليه الحال قبل عقود قليلة. ”فإحدى أهم ميزات التكنولوجيا الحديثة والإنترنت هي جعلها العلم متاحاً للجميع شريطة الحصول على التكنولوجيا أولاً. فالمعلومات لم تعد حكراً على نخبة. فكل من يستطيع الوصول إلى كومبيوتر يستطيع الحصول على المعرفة التي يريد، وهي متوافرة للغني والفقير على حد سواء. وفي الولايات المتحدة الكومبيوتر متوافر لجميع الطبقات، خصوصاً في المدارس العامة، وهذا لا ينطبق على باقي دول العالم، حيث لا يزال الكومبيوتر سلعة يحتكرها الذين يملكون المال فيملكون المعرفة أيضاً“. [1]
ولئن كان ما تنتجه العقول البشرية الآن من معلومات ومعارف في سنوات قليلة يفوق مقداره ما كانت تنتجه سابقاً في عقود زمنية طويلة، غير أن التحدي هو في القدرة على التعامل مع هذا الكم الهائل من المعلومات بشكل علمي قائم على الاستنباط والاستنتاج والتحليل، وبالتالي التمييز بين الغث والسمين، وتوظيف كل ما يحتوي على مضامين قيِّمة، علمية ومعرفية وثقافية وفكرية، لصالح الإبداع والتقدم العلمي، وتنمية القدرات العقلية، وبما يسهم في تكوين عقول الأجيال، ويبني شخصيّاتهم.
ومن هذه الزاوية، إذا كان مهمّاً مقدار ما يُصرف من وقت أمام الشاشات، إلا أن الأهم من ذلك هو مضمون ومحتوى وجودة ما يتم مشاهدته، أو قراءته، طوال هذا الوقت المصروف، بحيث يكون ذو قيمة وأصالة، يُغذِّي فكر وعقول الناشئة، ويبعدهم عن التّسطيح والتّجهيل، ويصنع منهم جيلاً واعياً ومسؤولاً، خصوصاً في هذا الزمن الذي باتت الأجيال فيه منشغلة أكثر بصرف أوقاتها وطاقاتها بوسائل اللّهو والتسلية والترفيه، والتي يعاب عليها بأنها ضعيفة القيمة ثقافياً، والخاوية فكرياً.