آخر المداحين المتجولين ”ابو حميدان“ المعمر الكفيف
كنا نرى ونحن صغارا كل شيء حولنا جميل وكبير وواسع لأن الطفولة بحد ذاتها بريئة متشوقة للمعرفة ومتعطشة للجديد لتملئ اعينها بالأماكن والشخصيات التي تستحق الوقوف عليها والتي لها يد خيرة على مجتمعها.
بالقديح وفي ارجاء فريق ”الشرقي“ الذي يحده من الشمال حي أم الخنيزي إلى شمال غرب مسجد الشيخ ابراهيم ملاصقا لمقبرة صغيرة وإذا صح التعبير مدفن استخدم لدفن من مات في زمن الحصار وهذه الحادثة لها قصة لا داعي لسردها الآن، ولكن في الفترة الاخيرة اضيفت تلك المقبرة لمسجد المذكور، وشرقه ملعب ”السوداني“ سابقا كانت مزرعةعامرهبالنخل والاشجار المثمرة وقد قطع نخلاتهاواشجارها وصارت ساحة كبيرة استخدمت للعب كرة القدم والآن مواقف سيارات، ومن جهة الغرب شارع يفصله عن فريق ”الشرابية“ وسمى بذلك لوقوع عين جوفيه فيه تسمى بذاك الاسم، ومن جهة الجنوب مبنى البلدية الحالي.
كانت أمي حفظها الله تحملنا مشيا ونحن اطفالا ماره من بيت الوالد حفظه الله من فريق الغربي حي ”السدرة“ متخللة البيوتات والازقة ”الزرانيق“ والمنازل الخشبية ”الصنادق“ وبيوت الصفيح عندها كنت المح دكان في زاوية لا يتجاوز مساحته مترين في مترين يبيع مواد غذائية بسيطة وتشم منه رائحة دخان التبغ ”التتن“ لأن غالبية مرتاديه كبار السن الذين يدخنون النارجيلة.
هذا الدكان يعرف باسم ”دكان حميدان“ يستقبلك فيه رجل عليه طلائع الايمان يجلس قرب المدخل تشاهد البضاعة والسلع التي ترجعك للماضي البعيد القريب ”زمن الناس الطيبين“ والذي يذهلك حقيقة بأنه ليس مجرد مكان للبيع فقط بل مجلسا يرتاده مختلف الشخصيات، تأخذ منه اخبار البلد جديدها وقديمها حيث يتناقلون الاخبار فيما بينهم.
صاحب الدكان الحاج علي بن محمد بن حسين ابو حميدان من مواليد القديح سنه 1324 هجرية يعتبر من المعمرين رحمه الله، عاش وسط الطبيعة ”المزارع والنخيل“ في كنف والدين صالحين وتوفي والده وكان يبلغ من العمر خمسة سنوات، ومازال في مرحلة اليتم منذ صغره يعمل بالزراعة حتى سن الثالثة عشر تقريبا، ومن ثم راح يعمل بالبحر صائد للسمك ثم تطور ليصبح غواصا يسبر في اعماق البحر متخذا تلك المهنة لقوت يومه، تزوج من الحاجة فاطمة الخليفة رحمها الله وانجبت له ولد اسمه احمد وبنت اسمها اسدية.
في سن الخامسة والعشرون اصيب بمرض مفاجئ لعله ”الجدري“ فقد على اثره بصره ولصعوبة الحياة ومتطلباتها المعيشية وإعالة ذويه عمل مداحا لآل البيت متنقلا ببيوتات القطيف وما حولها، فمهنة المداح مهنة قديمة من الموروث الحسيني حيث كان المادح يجوب الطرقات ويزور المنازل ويقرأ نعيا أو مدحا في حب آهل البيت ، وهذه المهنة انتهت ولا وجود للمادح حاليا، نعم علم نفسه تعليما ذاتيا ذاهبا للخطباء متزود ومتعلم منهم حتى حفظ بعض الابيات الحسينية ومع هذه الصعوبات كان لايترك الصلاة في المسجد وكان المؤذن في مسجد الشيخ ابراهيم فكان يفتح المسجد قبل الصلاة ويغلقه بعدها.
كان صاحب هيبة ووقار لا يمل جالسه محبوب من الجميع ذو نكته وفكاهة يفتح الدكان كل يوم من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة المغرب، حيث يذهب بعد تناول وجبة العشاء للمجالس الحسينية، كما نقل لي حفيده ”حسين“ الذي لازمه بالسير فتره طويلة من حياته بأنه عندما كبر بالسن عجز عن المشي لمسافات طويلة اقتصر بالحضور للمجالس الحسينية القريبة وحتى هرم سنه لم يترك تلك العادة، وأن طلب منه أن يرتاح يقول كلمته المشهورة: يا ولدي مادام بي عرق ينبض فلن اترك مجالس الحسين .
بجانب مهنة المادح عمل ايضا بمهنة صعبة على ذوي الإعاقات البصرية وهي مهنة الحلاقة ”مزين، محسن“ وبائع في دكان حوى الحلويات والسكاكر والمواد الغذائية وبعض من الأواني المنزلية والمكانس والمراوح التي تصنع من خوص النخل وبعض الملابس الخفيفة، هكذا كان الاباء والأجداد يتعبون.
الآن تقف بذهني ملامحه وهو جالس فوق تلك الدكة يكسوه الحزن والبكاء والعويل هائم تخنقه العبرة مستمع للنعي الحسيني الاتي عبر الاثير فقد كان من البكائيين والمحافظين دائما لحضور المناسبات التي تقام فيها شعائر آل بيت النبوة حتى اقعده المرض وصار طريح الفراش لمدة سنتين إلى ان رحل إلى جوار ربه في تاريخ 27/09/1433 هجرية فرحمه الله رحمة الابرار وسكنه الله فسيح جناته انه سميع مجيب. وبالمناسبة «لنا في المترجم نسب من قبل النساء كما اخبرني بذلك والدي حفظه الله»