استحضار الماضي
يا ترى كيف انتهى بك المطاف إلى ما أنت عليه اليوم..؟ هل هو محض صُدفة..! أنظر إلى جميع القرارات التي اتخذتها في الماضي، وإلى النتائج التي تبلورت حتى انتهت بك إلى هذه المرحلة. هل تشعر اليوم أنك أقرب إلى الحماقة منك إلى الحصافة والحكمة جراء افتاءات غير مدروسة صدرت منك، أو أن الصورة مختلفة تمامًا كما يبدو لك؟
اليوم وقد وصَلْتَ إلى مرحلة مُتقدمة من النُضج، هل بَدَتْ تظهر عليك ملامح التغيير، هل بات إدراكك ووعيك أفضل بكثير من أي وقت مضى، وأنك بُتّ ذلك الشخص الذي لا تهزه الرياح والأعاصير؟ أو أن الصورة العامة ما زال يكتنفها الكثير من الضبابية والغموض، وأن العواقب طويلة المدى لم تتكشف خيوطها بعد، وضوحًا وتجليًا.
بعد أن تيقّنت أنه لا يمكنك الصمود أطول، وأنه لم يعد بإمكانك عمل شيئ حيال ما مضى، هل قررت المضي قُدُمًا في مُواصلة حياتك بالمُعطيات المُتاحة؟ إذا كان الأمر كذلك، بات مُلِحًّا أن تُوقف مكينتك الذهنية عن مواصلة عرض المزيد من المقاطع السينمائية والصوتية لأحداث الماضي. أنت تعلم مُسبقًا أن جميع تلك المراجعات لن تخدمك في التوصل إلى الحلول الناجعة والخروج مما أنت فيه من ارتباك؛ أليس كذلك..! إذن، قل لي بربك، لماذا تُصّر على مواصلة الطريق بنفس عقليتك القديمة؟
اعلم بما أوتيت من دراية ومعرفة، أنه لا يمكنك أن تكون صادقًا مع نفسك، وفي نفس الوقت تكون فيه ذلك الجَلّاد الماسك بِسَوْطه، تجلد نفسك في اليوم أمْرارًا عديدة، لا لِجُرْم اقترفته في حق أحد، فقط لمُجرّد تقييم قاسي ووحشي صدر منك في حق نفسك. تثبيطك المستمر لإرادتك في كل مرة تُقدم فيها على فعل شيء جديد، ما هو إلا إجراء تَعَسُفَي لا يخدم توجهك الذي تريد من خلاله الخروج من ظلمة النفق الذي أوجدت نفسك فيه إلى نور الحياة واشراقتها، بعيدًا عن تصورات الماضي وعثراته التي لم يسلم منها أحد.
صحيح أنه لا يمكنك عمل تعديل على أحداث الماضي، لكنك بكل تأكيد يمكنك تغيير ما تعنيه لك تلك الأحداث. مهما بلغت العقبات والصعوبات والعوائق التي مرّت عليك، والمواقف الجائرة التي صدرت في حقك على مر السنين الفائتة، فإنها أيضًا بكل صراحة، تركت خلفها فوائد جمّة، وإن بدت خفية وغير مُلاحظة في بداياتها.
في هذه المقالة المقتضبة لم أسعى، أخي القارئ أن أجعل منك إنسانا مثاليًا بقدر ما هي محاولة أخوية أدعوك فيها للتخلي عن استحضار الماضي بين وقت وآخر. واقع الحال، لا يمكنك أن تكون ذلك الأنموذج الواقعي للشخصية التي تتطلع لتكوينها، بين عشية وضحاها، خاصة، عندما يتعلق الأمر بمسلسل طويل امتدت حلقاته لسنين مع كثرة المتغيرات والأحداث وتعدد الشخصيات. ربما لهذه الأسباب وغيرها، تابعت نهجك القديم، لعلمك بصعوبة التغيير بدايةً، وختامًا بعدم اليقين لما ستنتهي إليه فصول حياتك المستقبلية.
الواقع المؤلم والحزين، أن السواد الأعظم من الناس يقضون الكثير من الوقت في التفكير في ماض لا يمكنهم بأي حال تغييره، ويمضون ساعات طوال في أحلام اليقظة، يخططون وينحتون مشاريعهم في جبال من الوهم، لمُسْتقبل لا يُمكنهم التوقع بأحداثه..!
كم كُنْتُ أتمنى كغيري، لو أن الفرد منا ركّز على أن يعيش اللحظة بتفاصيلها بعيدًا عن العشوائية والعبثية، وهذا ما يحفظ للحظة قيمتها الحقيقية والواقعية. هذا إذا ما أردنا بسطةً من العيش الكريم ترقى لأن تكون فيها الحياة، حياةً متوازنة تتحقق فيها السعادة الآنية والمستقبلية.