آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:35 م

الأطر المعرفية للإنسان

منصور يحيى *

يبدأ الإنسان حياته مأسوراً داخل إطار فكري معين بناه من تصوراته التي استقاها من محيطه فجمعها في منظومة تشكل فهمه للعالم والنظام الذي يحكم انفعالاته وردود أفعاله تجاهه، قد يكون هذا الإطار الأولي هو الأخير لمن لا يكترث بالتناقضات ولا يهتم بالخلل البنيوي في هذه البنية المعرفيه القائمة على أنقاضٍ جمعها الوعي لا إرادياً، مشكِلاً عالماً «غير متماسك الأركان غالباً»، وما أن تبدو التناقضات واضحهً وعصيةً على التطابق مع الواقع الفعلي حتى تُشَكَّل منطقة فراغ تُهمَل آنياً، ولكن ما إن تلبث هذه المناطق الفارغه بالتراكم حتى تحل محلها رؤية جديدة تشكلت تدريجياً من الإفراغ والإحلال المتراكم، تكون أكثر ملائمةً وقبولاً من سابقتها معلنةً الإطار الجديد ببنية أكثر إحكاماً.

لا يكون الإطار الجديد أفضل من القديم إلا من حيث دخول الإرادة الواعية المنتقيه لمواد بناء الوعي الجديد فقط، فهي مجرد انتقال من البناء التراكمي الإعتباطي إلى التراكمي الموجه، ولا يعني هذا حتمية الصعود بالوعي مطلقاً، فالإنسان أكثر تعقيداً من ذلك، ولنكون بعيدين عن المثاليه فإن الإرادة الواعية المُوَجِّهَه للتراكم المعرفي لا يُقصَد بها إلا الإرادة المنحازه لأفكار ومتبنيات أدت إليها خبرات سابقه قد تكون صحيحه وفي محلها وقد لا تكون، فتغير الإطار ضرورة لازمة للوعي الباني المتحرك، كما تؤدي لعدم وجود إطارٍ نهائي ينتهي عنده دور الوعي.

فالإطار الأفضل هو المبني على المتبنيات الأفضل والمبنية بدورها على تجارب معرفية لا يمكن القطع بالإحاطة بجميع ظروفها ومتغيراتها وبالتالي نتائجها، أفضل الأطر الفكريه أكثرها مرونةً وقابلية للإختبار والتحسين، وأسوءها هو أصلبها وأكثرها قطعية وتزمتاً وكلٌ يعمل على شاكلته.

وهنا يتبادر سؤال في الذهن وهو: أين موقع الإرادة الحقيقية من كل هذا؟ ذكرنا أن دور الوعي هو ملاحظة التناقض وكشف العيوب التطبيقية بين الإطار المعرفي والواقع لصنع مناطق الفراغ، تبقى هذه المناطق فارغة حتى تأتي الإرادة المدفوعه بغريزة الفضول المعرفي التي تدفع الإنسان دفعاً لملئ الفراغ بالبحث عن إجابات تُكمل الصورة الناقصه وهنا دور الإرادة، فالوعي لا يكفي إلا للإفراغ بينما لا يتم الإحلال لبناء إطار معرفي جديد إلا بالإرادة الدافعة تجاه البحث عن إجابات تزيل التناقضات المتراكمه.

ولا يكون الوعي وعياً إلا حين يدرك دوره ومحدوديته وقصوره الذاتي، وإدراك بعده عن المثاليات والمطلقات والحتميات ما يجعله في حركةٍ دائمة دائبه في بناء عالمٍ لا ينتهي فيه التغير ولا يَثبتُ فيه التحرك، كمن ينحت وجهاً لا يذكر ملامحه على قطعة حجر فيقضي عمره محاولاً نحت ما لا يذكر، ولا يدري كيف سيبدو الوجه عند حلول أجله.