الأبناء والبنات: ثقة ومتابعة
رغم أن الكثير من الناس مطمئنون الى معارفهم وأفكارهم، غير أنهم يسعون دائما الى تحقيق المزيد من اليقين عبر الحجة المنطقية والتجربة العملية. هذا ما عرفناه تاريخيا وحاضرا، فقد أنطلق البعض في رحلة منهجية نقلتهم من الشك المفرط الى اليقين القطعي عبر حجة برهانية. وهذه المنهجية قد تكون عبر استنطاق للذات كما فعل العالم الرياضي والفيلسوف المشهور ديكارت، فقد بدأ منهجه بالشك في صدق ادراكاته الحسية «مثلا: يرى بعينيه القمر صغيرا بينما هو كبير في الواقع»، وعليه لم يعد يصدق ادراكاته الحسية فشك في وجود العالم ثم في وجوده المادي نفسه. وبعد عناء البحث والتفكير ومراجعة الذات، انطلقت به رحلة العودة، فبدأ من يقينه بوجود ذاته الشاكة المفكرة: «أنا أفكر، إذن أنا موجود». وحيث أن نفسه موجودة ولكنها شاكة فهي مخلوق ناقص يحتاج الى خالق كامل لا يعتريه الشك، وهو الله، وهكذا أثبت ديكارت بعدها وجود العالم المادي ومنها وجوده الحسي.
ثم جاء ديفيد هيوم رائد الفكر التجريبي ليرمي مبدأ السببية عرض الحائط، فالنار مثلا ليست سببا اضطرادايا ضروريا للحرارة، بل لأننا نرى النار دائما تتبعها الحرارة، فقد تولد لدينا تداعي للمعاني في أذهاننا بين النار والحرارة. وهكذا فكل سبب ونتيجة بنينا عليه نظرياتنا العلمية التجريبية ليس سببا ونتيجة كما يرى هيوم بل هو تداعي للمعاني، وهذا سهم يصيب كل العلوم والنظريات التي تقوم على الأسباب والمسببات في مقتل. هذا ما دفع بإيمانويل كانت الى تفجير طاقاته الخلاقة للرد على تشكيك ديفيد هيوم. لقد رأى إيمانويل كانت المفكر الرائع أن عقل الإنسان يملك قوالب ادراكية منها المكان والزمان والسببية وغيرهم من مقولاته الأثني عشر وهذه تنظم الإدراكات الحسية وتحولها الى فهم متكامل وصورة واقعية للعالم تتناسب وقوالب عقولنا الإدراكية. فعقولنا ترى النار وتحس بالحرارة وتفهم أن هذه الحرارة أتت من هذه النار وأنها سبب لها وليست تداعي للمعاني. فحيث وجدت النار وجدت الحرارة وهذا قانون طبيعي لا يتخلف.
ثم جاءت مدرسة هيغل الديالكتيكية الفكرية الجدلية، فالعقل ينتقل من الفكرة الى نقيضها سعيا للوصول الى الفكرة المطلقة. وهذا الجدل هو طلب لليقين وإعمال للحجة والبرهان في حوار فكري سواء داخل النفس او خارجها. ثم نقل فيورباخ وإنجلز وماركس الديالكتيكية الى المادية التاريخية والاقتصادية في تفسير لصراع الطبقات بناء على تغير وسائل وعلاقات الإنتاج.
هكذا تطورت العقلانية في الحضارة الغربية عبر ديكارت وكانت وهيغل وغيرهم بحثا عن اليقين سواء في مسائل الوجود او في نتائج العلوم الطبيعية. وقد جاءت المدرسة النقدية في فرانكفورت لتجمع بين المذهب التجريبي الذي يعتمد الاستقراء التجريبي كما جاء به فرانسيس بيكون والاستنتاج العقلي المنطقي كما يراه المذهب العقلي. وقد أسست هذه المدرسة النقدية الى حوار يهدف الى مراجعة الحياة الغربية كما نراها في عصرنا الحاضر. فرأى الكثيرون منهم أن العقلانية الغربية بدأت في عصر التنوير ثم في الحداثة كعقل موضوعي أخترع وأكتشف وسخر الطبيعة لخدمة الإنسانية، ولكنه أنحرف تدريجيا بعد الحداثة ليتحول الى عقل أداتي جشع ومتوحش يركز على التقنية ويرى الإنسان كأي شيء آخر في هذه الطبيعة، فهو يسعى الى الربحية بعيدا عن قيم الإنسانية. هذا ما يفسر وحشية الحروب العالمية والتنافس الاستعماري المحموم لاقتسام كعكة الدول المستعمرة الفقيرة حتى وقتنا الحاضر عبر الشركات العابرة للقارات والسوق المفتوح.
وقد أنبرى الفيلسوف هابر ماس ليعطي وصفة علاجية لهذا الوضع المأساوي. فبينما يعترف هابر ماس بانحراف العقلانية الغربية الحالية عن مسارها الإنساني، إلا أنه يرى أن الحداثة لا تزال في أول الطريق وأن الحل يكمن في استغلال الفضاء العمومي «الصالونات والمنتديات والمقاهي والديوانيات» للتواصل والحوار بين الأطراف المختلفة من أجل الوصول الى حل مقبول من جميع الأطراف. هذا ما يسمى بنظرية الفعل التواصلي، ويشترط هابر ماس لنجاح هذا الحوار ما يلي: صراحة لمتحاورين، صدق ودقة التعبير عن الواقع، عدم العناد واحترام الرأي الآخر. إن الفضاء الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي الذي يعيشه أبناؤنا وبناتنا مثال حي للفضاء العمومي، ولكن هل يا ترى تنجح وصفة هابر ماس لعلاج جشع العقل الأداتي وإحياء العقل الموضوعي، وكيف يمكن التعامل مع المجموعات البشرية المتنافرة والتشويه الدعائي في هذا الفضاء الافتراضي؟ سأترك الإجابة على هذا السؤال للقارئ الكريم.
المهم أن علينا أن نعي كآباء وأمهات أن الجيل الجديد من أبنائنا وبناتنا، ولله الحمد، قوي وواثق بأفكاره وعواطفه، ومع ذلك فمن المفيد جدا أن نكشف له المزيد من الخلل في الحياة الغربية، والانحراف من العقل الموضوعي المخترع والإنساني سابقا الى العقل الأداتي الجشع حاليا. فعقلانية الغرب الآن ليست إنسانية كما تدعي وسائل الدعاية الغربية، بل هي صراع محموم للربحية ولتنميط شخصية الجيل الجديد حسب الوصفة الغربية من الطعام واللباس والمتعة والاستهلاك.
يستحق أبناؤنا وبناتنا الكثير من الحوارات العقلانية الشفافة في الأسرة والمجتمع والمدرسة سعيا لفهم ما يدور في خواطرهم ويشغل بالهم. فهناك الكثير من المظاهر التي تغزو المدارس والمجتمعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالمسلسلات الأجنبية والحوارات مع الغرباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعجاب بمشاهير من الجنس الآخر وعدم المتابعة من قبل الأهالي قد تغري البعض للسقوط حيث توجد الكثير من الوحوش الكاسرة التي تنتظر تهور ومراهقة البعض لا قدر الله لتسوقهم الى خانة المخدرات والانحراف الأخلاقي. إننا نحتاج كآباء وأمهات لزرع الثقة بأبنائنا وبناتنا، وفي نفس الوقت متابعة أدائهم الدراسي وفتح قلوبنا لما يدور في أذهانهم من أفكار في جلسات عائلية تظللها الرحمة والحب والحنان.
أنني على ثقة يا أبناءنا وبناتنا: أنكم جيل العلم والمعرفة والحكمة والعفة والشرف والفضيلة، فلتحققوا لنا الأمل والمستقبل المشرق، حفظكم الله ورعاكم.