آخر تحديث: 28 / 11 / 2024م - 11:50 م

كنت أدري! «التواصل الغير مجدي»

محمد سليس

من بركات العولمة تقع أحداث غضة طرية فتنقلها إلى شخصٍ ما على أنها سبق صحفي، فتفاجئ من ردة فعل أحدهم الباردة في تلقي الخبر معللاً ”كنت أدري“ لا لإن الخبر سهل المنال أو لتوفر الخبر مقالاً وصوراً، بل مجرد مدعى. كيف كنت تدري؟! أقول لك الآن وقع الحدث وتقول كنت أردي!

فيجيب، لا لم أشهد الحدث ولم أسمع به لكني مسبقاً كنت أدري هذا ما سيحدث.

العجيب، أن هؤلاء الناس الذين كلّما جرا حدث يدعون سابق المعرفة وهم بذلك يظهرون الثقة والإصرار على أن رؤيتهم في هذا الحدث أو ذاك كما ظنوها حصلت؛ سبحان الله! هل هم عرافون؟ أم منجمون؟ أم متنبؤن للغيب؟ ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «مريم 78».

في الواقع ليس كذلك أبداً، هناك نظرية في علم النفس تفسر هذا السلوك وتسمى ب «Hindsight bias» تحيز الإدراك المتأخر: الميل العام للإدعاء بمعرفة الحدث قبل وقعه لوجود بعض القرائن. ويطلق على صاحب هذه الطباع ب «مدعي المعرفة الكاملة». وسأحاول إيضاح التفاصيل من خلال بعض الأمثلة.

مثال على مدعي المعرفة الكاملة:

بنت تقول لإمها: أماه! بنت الجيران انفصلت عن زوجها!

الأم: كنت أعرف أنهما سينفصلان. ما كان من المفترض أن يرتبطا من الأصل.

البنت: كيف كنت تعرفين؟ ومن أين هذه الثقة بمعرفتك؟

الأم: لأن البنت طموحة ومتفوقة في دراستها. وهو لا يناسبها.

كون البنت طموحة لا تعني بالضرورة حتمية فشل العلاقة الزوجية. ولا يمكن الجزم بحتمية وقوع الطلاق إستناداً على هذا التبرير، فإن المعطى غير كافي لإدعاء معرفة العاقبة. لكن هنا معرفة الأم بطموح بنت الجيران زائد تفوقها الدراسي جعلها في ذهنها تربط بين الحدثين - الطموح والطلاق - وقدّ يكون هذا بعيد كل البعد عن السبب الواقعي للطلاق.

كثيراً من الأحيان يخلق لنا الذهن أحداث لا وجود لها في الواقع سوى في مخيلتنا. وهذه ليست حالة مرضية بل حالة طبيعية ومن أصل تكوين العقل البشري. يخلق بعض الأمور اللاواقعية ويجعل لها قالب مقارب للحقيقة ثم يصدقها لأجل الحماية. فعندما يمشي إنسان في الغابة ويرا عصا في الأرض يهرب منها ظناً منه بأنها أفعى. وقدّ يضيف إلى ذلك عندما يسترجع ذاكرته بأنها كانت تسعى وتحركت بإتجاهه. فلا عجب بأن يتصور أي شخص أحداث غير موجودة في الواقع ويدعي بأن السبب «أ» والسبب «ب» أدى إلى النتيجة «ج» كما في المثال السابق: طموح + تفوق= طلاق. وهذا ما يسمى بالتذكر الخاطأ

التحيز لهذا النوع من الإدراكات تكون واحدة من ثلاثة أنواع: التذكر الخاطأ - الحتمية - التنبأ

الحتمية والتنبأ قد يظهران قريبين من بعضهما في أصل الفكرة ولكن الفرق بين الأول القطع والآخر الإحتمال.

مثاله، يشجع شخص فريق - برشلونة على سبيل المثال - ويتحمس للمباراة ويتفاعل مع كل لعبة. في أصل كرة القدم تبدأ المبارة بنتيجة صفر - صفر أي التعادل، لكن يقول لنفسه فريق يلعب فيه ميسي «حتماً سيفوز» فلو فاز الفريق يقول: كنت أدري أنهم سيفوزون.

لكن بعد عدة محاولات وإهدار للفرص، يقول: سيسجل في مرماهم - برشلونة - هدف «و هذا هو التنبأ»، وبالفعل بعد تسجيل الهدف والهزيمة يقول: كنت أدري.

هؤلاء الناس الذي يدعون معرفة الأشياء قبل وقوعها يضعون جميع الإحتمالات أمام أعينهم ويجعلون إحتمالية الوقوع بنفس النسبة. فعندما تعتبر الزوجة خيانة زوجها أمر حتمي وعندما يتنبأ الزوج بإهمال زوجته له فيبدأ بالبحث عن ما يأيد المدعى.

فإذا القى الزوج التحية على زميلته فقد شرع في الخيانة. وإذا عاد هو ولم يجد حاجاته في البيت وقد ذهبت هي لمساعدة أمها المريضة فقد أهملته كما تنبأ. فأي نوع من أنواع التواصل للإصلاح يكون منقطع الآخر ولا جدوى فيه. فمن إشتبهت عليه الذاكرة ومن كان يعتقد بالحتمية أو من تنبأ بوقوع الحدث لا يقبل المناقشة في ما يظنه صحيحاً. لأنه متحيز لما يدركه وما يحمله في ذهنيته المسبقة. فيجعل الإدراك عقيدة ويبني عليها بنيان حصين يمنع الآخر من الوصول إليه.

بعد أن يبنى الجدار الإسمنتي يصعب الوصول إلى هذا الوهم والمناقشة فيه. فتكون كل المحاولات محظورة من قبل الشخص. ويقول: لا أريد التحدث في هذا الموضوع. أو أغلق هذا الموضوع. أو الموضوع انتهى بالنسبة لي. ولا يعلم هذا المسكين أنه يظلم نفسه، وأن أي حدث يمر عن طريق الحواس الخمسة إلى الدماغ يقع منها على منطقة المشاعر «amygdlya» وهي إما كره، حبّ، خوف، سعادة.... إلخ. فإذا صَدَّقَ هذه المشاعر ووقف عندها ولم ينقلها إلى المنطقة الآخرى من الدماغ وهي «التعقل» فإن كثيراً منها تسبب ظلماً للنفس. ومن ثم للآخرين.

أخيراً، إن هؤلاء الناس يستمدون قوتهم وأحقيتهم بالإعتقاد بالحدث على نحو المطلق فإنما هم يستقرون عليها من خلال تأييد الآخرين لهم، فإذا لم يجدوا التأييد من الخارج تلاشت الفكرة من الداخل. إذاً فعلينا مراقبة أنفسنا ولا ننصر أحداً على فكرة إلا بعد التأكد والتثبت بإنها خرجت من منطقة المشاعر. روي عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: ﴿انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا

قالو: كيف ننصره ظالماً؟.. قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه.