مرآة النفوس
أشتهرت إحدى المدن بالحكمة والفضيلة والخير والجمال فقصدها الزوار من كل الأمصار عسى أن يعرفوا سر هذه المدينة.
فرأوا الناس فيها يتعلمون ويعملون وقد علت وجوههم الإبتسامة وملأ قلوبهم السرور. فأزداد الضيوف عجبا وسألوا عن حكيم المدينة عسى ان يروي ظمأهم ويشفي صدورهم، فقال لهم الدليل إن أسمه مرآة النفوس. طلب الضيوف لقاءه فأخذهم الدليل الى مجلس كبير تحلق فيه الكبار والصغار يسمعون كلام الحكيم بكل عناية وتركيز، وهو يتحدث عن نفس الإنسان وشؤونها.
ضرب الحكيم مثلا وقال: تصوروا أننا لانملك مرآة نرى فيها وجوهنا، وقال لنا الناس أنكم أجمل بشر خلقه الله، فسرنا حديثهم وصدقنا كلامهم. ثم أننا بعد فترة حصلنا على مرآة تعكس صورنا، فنظرنا الى المرآة لأول مرة لنكتشف إن كان الناس قد صدقونا القول وأخبرونا الحقيقة ام لا! تلك إذن لحظة الحقيقة التي نرى فيه وجوهنا.
تابع الحكيم قائلا: ماذا إذا قال الناس أنكم أهل الخير والحكمة والفضيلة؟ هل توجد مرآة تعكس نفوسنا وتكشف سرائرنا لنعرف الحقيقة ونطمئن بصدق ماقاله الآخرون عنا؟
وقف شاب صغير لم يبلغ العشرين من عمره وسأل الحكيم متعجبا بصوت يسمعه الجميع:
لما نحتاج الى مرآة يا مولاي الحكيم؟ أو لسنا أعرف بنفوسنا فهي أقرب الينا من وريدنا؟
أجاب الحكيم: أحسنت يا ولدي، وكيف تعرف نفسك؟
قال الشاب: أنظر اليها بعين قلبي فأسهر الليل في محاسبتها وأقوم النهار في خدمتها.
أشرأبت أعناق القوم ينظرون الى هذا الشاب وهم ينتظرون كلام الحكيم.
قال الحكيم: صدقت يا بني، فالقلب مرآة تعكس صفاء النفس، ولكن هل تنام عين قلبك ام تبقى ساهرة على الدوام؟
أجاب الشاب: نعم يا مولاي، تغشاني الغفلة أحيانا فأنسى نفسي فترات، عندها يذبل طموحي ويخبو حماسي وينام فكري وتبرد عواطفي. فهل الى دوام من سبيل؟
أجاب الحكيم: الدوام يحتاج الى توفيق الله ومجاهدة النفس.
سأل الشاب: وماذا لمن رأى نفسه بقلبه ولم يغفل عنها؟
أجاب الحكيم: له بذلك نعمتان. أما الأولى فنعمة المشاهدة، فأنت تبصر بعين حواسك فترى الدنيا وجمالها، وتحلق بعين قلبك فترى النفس وكمالها. إنك ترى بعين قلبك ما لا تراه العيون.
أما الثانية فهي متعة الوصول: فحين يضيء قلبك نور الفكر ويشعل نار الحماس تسمو نفسك الى الخير وتطمح الى الكمال وتسعى الى الرضوان، فلا تلبث حتى تبلغ الثريا وتحقق المطلوب.
وقف شاب آخر وقال مولاي الحكيم: كيف يعرف أن مايراه قلبه هو الحق؟
أجاب الحكيم: إن جمال الطريق من جمال الحبيب وكيف يتيه قلب ملأته شمس الحقيقة!
سأل شاب آخر: وماذا عن الناس، هل نهتم بأمرهم ام نتشاغل عنهم؟
أجاب الحكيم: الرفيق قبل الطريق، ونحن في سفر قصير. إنما الخلق عيال الله وأحب الخلق الى الله أنفعهم لعياله.