آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

الطريق إلى المستقبل

بسام المسلمي *

قال الباحث يوسف الإدريسي، ”وحين نتأمل تاريخ قراءة النقد العربي ككل نلاحظ أنه ظل محكوما في كثير من جوانبه - بالرغم من اختلاف المنطلقات والتصورات والنتائج - بهيمنة نوع واحد ووحيد من التأويل، يقوم أساسا على الانطلاق من مناهج ونظريات معينة والبحث عما يسوغها ويدعمها في“ المدونة النقدية ”، فإن وجد الباحثون بعض نقط التشابه والتقاطع بين التراث النقدي وخلاصات النقد الأدبي الحديث، ألبسوا القدماء لباسا“ معاصرا ”، فاعتبروهم السباقين إلى اكتشاف أنساق نظرية ومفهومية معينة، وإن لم يقفوا على ذلك، ولاحظوا تباعدا في الرؤية والمقاربة بينهما اتهموا النقاد القدامى بالعجز عن إدراك الكليات والنفاذ إلى بواطن الظواهر والقضايا المعالجة. وبين هذا وذاك يبقى تأويل التراث النقديّ بعيدا عن إنتاج العلم وتطويره، وحبيس ردود الأفعال السلبية والانفعالية الضيقة.“

مجلة جذور، العدد 42، ص 59 - 60، يناير 2016.

الحقيقة أن طريقة التعامل والتعاطي مع النصوص القديمة ومقاربتها أمر محوريّ يحتاج من الباحث إلى فطنة تامة ووعي كامل بالسياق التاريخيّ الذي أُنتجت فيه تلك النصوص وإلا تاه وضل طريقه حتمًا. فالزمان والمكان في صيرورة وتحول دائميْن مؤثريْن في كل شيئ يحويانه ويحيطان به. ولذلك؛ فإنه لابد وأن نضع ذلك في أذهاننا عندما نتعامل مع النص وندعه يقودنا ويأخذنا إلى الوجهة التي يريدها لا التي نريدها نحن. فتكون مهمتنا بذلك ربط أوصاله وشدها ببعض متى ما شعرنا بتفككها وعدم ترابطها أو حتى تناقضها وذلك باكتشاف الروابط المتوارية والحبال المختبئة التي تشد عضدها.

ذكرتني عملية التعاطي مع النصوص العربية القديمة ببعض الباحثين الذين حينما يردُّون كل نظرية لغوية أو نقدية حديثة، غربيةٍ غالبًا، إلى نصوص عربية قديمة بعد محاولات متمحلة لاستنباط علائق بينها بغية التأكيد على جذورها العربية. والسبب وراء ذلك هو تخدير عقدة النقص ومواراة الهزيمة الداخلية التي يشعر بها أولئك الباحثون والزهو بالقوة المصطنعة الناتجة مما كنَّا نملكه من تراث فكريّ غني في الماضي. وهذا ما يدعو مثل أولئك الباحثين بأن ينكفؤوا على تراثنا القديم وينقلبوا على أعقاب نصوصه منفصلين بذلك عن الإنتاج الفكريّ الحديث. فهم يرون أنه لا فائدة من الإنتاج الحديث ما دام هو عالة على تراثنا القديم وما دام تراثنا القديم يختزن كل ذلك الجديد وكل ما يمكن أن يجدَّ ويستجد. ولعل هذا الإحساس هو ما عبر عنه الشاعر بقوله:

ما أرانا نقول إلا مُعاراً *** أو مُعاداً من قولنا مَكْرورا

فكل ما نقوله هو تكرار لما قاله مَن قبلنا وليس فيه من الجدة شيئ، أوكما قِيل، فإنه، ”لم يترك الأول للآخر شيئًا.“ فكأن العلم قد توقف في ذلك الزمن والأقلام قد جفَّت والصحف قد طُويت و”قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان“.

فهم يعتقدون بأن الماضيّ هو البقرة الولود التي لا تهرم ولا تتعب ولا تكل من الولادة لتغني وتملأ الحاضر والمستقبل بذريتها. وهذا ما جعل الكثير منهم يعيش ويقتات على التراث القديم على ما فيه من غث وسمين ويصبح أسيرًا له تاركًا ما أتاحه له الحاضر مما ينفعه ويغذيه تغذية ربما لا يجد لها مثيلًا في موائد الزمن الماضيّ. وربما يكون هذا هو ما ألهى بني تغلب منذ قديم الزمان حتى قال الشاعر فيهم:

أَلْهَى بَني تَغْلِبٍ عَنْ كلّ مَكْرُمَةٍ... قَصِيدَةٌ قالها عمروُ بن كُلْثُومِ

يُفاخِرُونَ بها مُذْ كان أَوَّلُهُمْ... يا لَلرِّجالِ لِفَخْر غَيْرِ مَسْؤُومِ

وكان يقصد بالقصيدة معلَّقة عمرو بن كلثوم التي مطلعها:

أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَا وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا

فكأن الزمن قد توقف ببني تغلب عند قصيدة عمرو بن كلثوم التغلبيّ التي ألهتهم عن كل ما جاء عقبها قصائد وأشعار.

وفي مقابل هذا التيار الذي يدعو إلى العودة إلى الماضي، هناك تيار آخر يدعو إلى القطيعة التامة مع الماضي بكل ما فيه والتنصل وربما الازدراء لكل ما يمت إلى الماضي بصلة. فالعودة إلى الماضي واجترار ما يحمله من تراث فكريّ هو نكوص وتخلف ورجعية. فالماضيّ بكله قد مات ودُفن وقُرأت عليه سورة الفاتحة منذ زمن طويل. وهذا يعني بالضرورة بأننا سنقتات على المنتج الأجنبي، وخاصة المنتج الغربي، وسنقتصر عليه تمامًا حيث إنَّ إنتاجنا الحديث لا يُعتد به أمام المنتج الأجنبيّ ولا يستطيع تلبية حوائجنا. فكل جديد وحديث عند أصحاب هذا التيار هو الصحيح والمفيد دائمًا والماضي هو الخاطئ والضار في كل الأحوال.

وبين هذا وذاك، هناك تيار آخر يحاول الجمع والتوفيق، على رغم تباين درجة الجمع والتوفيق بين أفراد هذا التيار نفسه، بين التياريْن السابقيْن. فهذا التيار يدعو إلى استنهاض الماضي والإفادة مما يمكن الإفادة منه وذلك باستخدام الأدوات والأبحاث الحديثة التي جاد بها العلم الحديث والتي يمكن تطبيقها على التراث. وهذا سيبعث ما يمكن بعثه وإحياؤه من الماضي ثم الإفادة منه في الحاضر والمستقبل. وهنا تجدر الإشارة أنه يلزم التحوير والتغيير في ضبط تلك الأدوات ”setting“ وتطويعها حتى يمكن تطبيقها على التراث العربي بما له من خصوصية. ولعل تلك الخصوصية هي التي دعت لإحياء ما يمكن إحياؤه منه حتى يُتاح لنا قطف الثمار من تراثنا بعد أن أصبح مطعَّمًا بنكهة الحاضر والجديد بعد الإفادة من الأدوات الحديثة وتطبيقها عليه. وبطبيعة الحال، فإن مقدار النجاح الذي يحضى به أتباع هذا التيار الوسط والحصول على ثمار وفيرة يبقى رهن فعَّالية أدوات البحث والتنقيب الحديثة وبراعة الباحث منهم وتمكنه من استخدام تلك الأدوات وتطبيقها بإتقان.

ولن يقتصر وجود مثل هذه التيارات على الأدب والشعر، كما ضربناه مثلًا في بداية المقال، بل سيظهر جليًا وواضحًا في المجالات العلمية المختلفة للتراث كالعلوم الدينية والاجتماعية والفلسفية وغيرها.

ومهما تنوعت واختلفت تلك التيارات، فلا شك أن جميعها ينشد نهضة الأمة العربية كي تقف على ساقيها وتعتمد على نفسها لتستأنف مسيرها بعد نومها الطويل. وبذلك تكون أحد اللَّاعبين والمساهمين الأساسيين في تقدُّم هذا العالم وتكون مفخرة وقدوة للأمم بعد أن كانت عالة ومتطفلة عليها ومستهلكة لما تنتجه حينًا من الدهر. وفي ذلك الحين الذي تكون فيه أمتنا منافسًا حقيقيًا للأمم المتقدمة سأكتب مقالًا آخر في كيفية التغلب على تلك الأمم وطرق التعامل والتعاون معها كنِدٍّ، ”فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ“.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
باقر الشيخ علي
[ الاحساء ]: 21 / 12 / 2019م - 11:20 ص
هذه الدعوة يتبناها كل شخص الوسطية وعدم إغفال دور العقل
وعدم الاستسلام للستنباطات الموروث في العلوم البشرية ..
ومعظم البشر واقعون بها بجهلهم المركب